للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الرؤية وفي المثل «ليس وراء العيان بيان» . وفي العين جمال الوجه دون السمع. والحق أن من فقد حسا فقد فقد علما وهو المتوقف على ذلك الحس. ولا ريب أن معظم العلوم يتوقف تحصيلها على البصر والإرشاد، والتعليم على الإطلاق يتوقف على السمع. فكل من الحواس في موضعه ضروري، وتفضيل البعض على البعض تطويل بلا طائل، فسبحان من دقت في كل مصنوع حكمته وأحسن كل شيء خلقه.

الثامنة: الآية الأولى فيها الإخبار بأن الذين كفروا لا يؤمنون، والإنذار وعدمه عليهم سيان. والآية الثانية فيها بيان السبب الذي لأجله لم يؤمنوا وهو الختم والتغشية، فاحتج أهل السنة بالآيتين ونظائرهما على تكليف ما لا يطاق، وعلى أن الله تعالى هو الذي خلق فيهم الداعية الموجبة للكفر وختم على قلوبهم وسمعهم ومنعهم عن قبول الحق والصدق، وكل بتقديره ولا يسأل عما يفعل. وأما المعتزلة وأمثالهم فيقولون: كيف ينشىء فيهم الكفر ثم يقول: لم تكفرون؟ وخلق فيهم ما به لبس الحق بالباطل ثم يقول لم تلبسون الحق بالباطل؟ ونحو ذلك من الآيات الدالة على أن الكفر باختيار العبد وقدرته. فتأولوا الآية على أنها جارية مجرى قولهم «فلان مجبول على كذا أو مفطور عليه» يريدون أنه بليغ في الثبات عليه، أو على أنها تمثيل لحال قلوبهم فيما كانت عليه من التجافي عن الحق بحال قلوب ختم الله عليه حتى دخلوا في زمرة الأنعام لا تعي شيئا ولا تفقه كقولهم «سال به الوادي» إذا هلك، و «طارت به العنقاء» إذا أطال الغيبة. وليس للوادي ولا للعنقاء عمل في هلاكه ولا في طول غيبته، وإنما مثلت حاله في هلاكه بحال من سال به الوادي، وفي طول غيبته بحال من طارت به العنقاء، والشيطان هو الخاتم في الحقيقة أو الكافر. إلا أن الله تعالى لما كان هو الذي أقدره ومكنه أسند إليه الختم كما يسند الفعل إلى المسبب في قولهم «بنى الأمير المدينة» أو أنهم لما ترقى أمرهم في التصميم على الكفر إلى حدّ لا يتناهون عنه إلا بالقسر والإلجاء، ثم لم يقسرهم الله ولم يلجئهم لئلا ينتقض الغرض من التكليف، عبر عن ترك القسر والإلجاء بالختم. أو يكون حكاية لما كان الكفرة يقولونه تهكما بهم من قولهم قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فصلت:

٥] ويحكى أن الإمام أبا القاسم الأنصاري سئل عن تكفير المعتزلة في هذه المسألة فقال:

لا، لأنهم نزهوه عما يشبه الظلم والقبيح ولا يليق بالحكمة. وسئل عن أهل الجبر فقال:

لا، لأنهم عظموه حتى لا يكون لغيره قدرة وتأثير وإيجاد. وزعم الإمام فخر الدين أن إثبات الإله يلجىء إلى القول بالجبر لأن الفاعلية لو لم تتوقف على الداعية لزم وقوع الممكن من غير مرجح وهو نفي الصانع، وإثبات الرسول يلجىء إلى القول بالقدر لأنه لو لم يقدر العبد

<<  <  ج: ص:  >  >>