جعل العرش كناية عن نفس الملك. يقال: استوى على عرشه واستقر على سرير ملكه إذا استقام له أمره واطرد. وفي ضدّه خلا عرشه أي انتقض ملكه وفسد. فالله تعالى دلّ على ذاته وصفاته وكيفية تدبيره للعالم بالوجه الذي ألفوه من ملوكهم ورؤسائهم لتستقر عظمة الله تعالى في قلوبهم إلا أن ذلك مشروط بنفي التشبيه، فإذا قال: إنه عالم فهموا منه أنه تعالى لا يخفى عليه شيء، ثم علموا بعقولهم أنه لم يحصل ذلك العلم بفكرة أو روية ولا باستعمال حاسة وإذا قال: قادر. علموا منه أنه متمكن من إيجاد الكائنات وتكوين الممكنات ثم عرفوا أنه غني في ذلك الإيجاد والتكوين عن الآلات والأدوات وسبق المادة والمدّة والفكرة والروية، وكذا القول في كل من صفاته. وإذا أخبر أن له بيتا يجب على عباده حجه فهموا منه أنه نصب موضعا يقصدونه لمآربهم وحوائجهم كما يقصدون بيوت الملوك والرؤساء لهذا المطلوب، ثم علموا بعقولهم نفي التشبيه وأنه لم يجعل ذلك البيت مسكنا لنفسه ولم ينتفع به لدفع الحر والبرد. وإذا أمرهم بتحميده وتمجيده فهموا منه أنه أمرهم بنهاية تعظيمه ثم علموا أنه لا يفرح بذلك التحميد والتمجيد ولا يحزن بتركه والإعراض عنه. وإذا أخبر أنه خلق السموات والأرض ثم استوى على العرش فهموا منه أنه بعد أن خلقهما استوى على عرش الملك والجلال. ومعنى التراخي أنه يظهر تصرفه في هذه الأشياء وتدبيره لها بعد خلقها لأن تأثير الفاعل لا يظهر إلا في القابل. وقال أبو مسلم:
العرش لغة هو البناء والعارش الباني قال تعالى: وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ [النحل:
٦٨] فالمراد أنه بعد أن خلقها قصد إلى تعريشها وتسطيحها وتشكيلها بالأشكال الموافقة لها.
قوله سبحانه: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ قال صاحب الكشاف: يلحق الليل بالنهار أو النهار بالليل يحتملهما اللفظ جميعا. وقال القفال: لما أخبر بالاستواء على العرش وأن أمر المخلوقات منوط بتدبيره ومشيئته أراهم ذلك عيانا فيما يشاهدونه لينضم العيان إلى الخبر. وقدم ذكر الليل والنهار لما في تعاقبهما من المنافع الجليلة فبهما تتم أمور الحياة، ثم وصف الحركة التي يحصلان منها بالسرعة والشدّة فقال يَطْلُبُهُ حَثِيثاً قال الليث:
الحث الإعجال وذلك أن حركة الفلك الأعظم أشدّ الحركات سرعة حتى إنها في مقدار ما تقول واحد واحد واحد يتحرك ألفا وسبعمائة واثنين وثلاثين فرسخا من مقعر فلكه والله أعلم بتحرك محدبه. فإن قيل: ما محل الجملتين؟ قلت: أما الأولى فمستأنفة كأنه قيل:
فماذا يفعل بعد خلق السموات والأرض؟ فأجيب يغشي الليل النهار. وعلى قول من يفسر الاستواء بالتدبير والتصرف يحتمل أن تكون هذه الجملة مبينة. وأما الثانية ففي محل النصب على الحال من الملحق كما أن حَثِيثاً منصوب على الحال من الطالب وهو الملحق