طلب حقيقة الإله في قوله: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ [الشعراء: ٢٣] ولم يزد موسى على ذكر الأوصاف. وأما فرعون فقد طلب الإله في السماء في قوله فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى [القصص: ٣٨] فعلمنا أن التنزيه دين موسى ووصفه بالمكان والحيز دين فرعون. والجواب لا نزاع في أن حقيقة ذاته كما هي لا يعلمها إلا هو والبسائط المحضة لا تعرف إلا بلوازم، وطلب فرعون إنما كان مذموما لأنه تصور أن يكون الإله شخصا مثله على تقدير وجوده لقوله: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [القصص: ٣٨] . ومنها هذه الآية لأنها تدل على أنه استقر على العرش بعد تخليق السموات والأرض وكان قبل ذلك مضطربا. والجواب المراد بالاستقرار أنه كان ولم يكن معه شيء فإذا خلق ما خلق من عالم الأجسام والاختلاط بقي ما وراءه نورا محضا. ومنها قصة إبراهيم وتبرئه من الآفلين ولو كان جسما لكان آفلا في أفق الإمكان. والجواب أن نور الأنوار أجل من ذلك ولا يلزم من كونه مع جميع الأحياز ومع ما سواها أن يكون في مرتبة الأجسام بل النفوس والعقول. ومنها أن أول الآية أعني قوله:
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ يدل على قدرته وحكمته وكذا قوله يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إلى آخر الآية. فلو كان المراد من الاستواء هو الاستقرار كان أجنبيا عما قبله وعما بعده لأنه ليس من صفات المدح إذ لو استقر عليه بق وبعوض صدق عليه أنه استقر على العرش. فإذن المراد بالاستواء كمال قدرته في تدبير الملك والملكوت حتى تصير هذه الكلمة مناسبة لما قبلها ولما بعدها. والجواب أن الاستقرار بالتفسير الذي ذكرناه أدل شيء على المدح والثناء، وحديث البق والبعوض خراف وهل هو إلا كقول القائل: لو كان واجب الوجود بقا أو بعوضا صدق عليه أنه إله فلا يكون الإله دالا على المدح. ومنها أنه سبحانه حكم في آيات كثيرة بأنه خالق السموات فلو كان فوق العرش كان سماء لساكني العرش لأن السماء عبارة عن كل ما علا وسما، ومن هنا قد يسمى السحاب سماء فيلزم أن يكون خالقا لنفسه. والجواب بعد تسليم أن كل ما سما وارتفع فهو سماء من غير اعتبار أنه نور أو جسم، أن ذاته سبحانه مخصوصة بدليل منفصل كقوله: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:
١٦] هذا ولغير الموسومين بالمجسمة والمشبهة في الآية قولان: الأول القطع بكونه متعاليا عن المكان والجهة ثم الوقوف عن تأويل الآية وتفويض علمها إلى الله، والثاني الخوض في التأويل وذلك من وجوه: أحدها تفسير العرش بالملك والاستواء بالاستعلاء أي استعلى على الملك. وثانيها: أن «استوى» بمعنى «استولى» كقول الشاعر:
قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق.
وثالثها ذكر القفال أن العرش في كلامهم هو السرير الذي يجلس عليه الملوك، ثم