للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فالمعتقدون في شرفه وفضيلته فريقان: منهم من اعتقد كونه كذلك على الإجمال، ومنهم من وقف على دقائقها على سبيل التفصيل والكمال، ولا ريب أن اعتقاد الفريق الثاني يكون أكمل وأقوى إذا ثبت هذا فنقول: من اعتقد أن جملة هذا العالم محدث وكل محدث فله محدث حصل له بهذا الطريق إثبات الصانع، أما الذي ضم إلى هذه المعرفة البحث عن أحوال هذا العالم العلوي والعالم السفلي على التفصيل الممكن لا يزال ينتقل من برهان إلى برهان ومن دليل إلى دليل فإن يقينه يتزايد وبصيرته تتكامل إلى أن يصير علما معقولا مضاهيا لما عليه الموجود، ولمثل هذه الفوائد والأغراض والغايات أنزل هذا الكتاب الكريم لا لتكثير وجوه الإعراب والاشتقاقات المؤدية إلى الإطناب والإسهاب، وأما قوله عز من قائل أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ فالخلق عبارة عن التقدير ويختص بكل ما هو جسم وجسماني لأنه خص بمقدار معين، فكل ما كان بريئا عن الحجم والمقدار فهو من عالم الأرواح وعالم الأمر لأنه أوجد بأمر «كن» من غير سبق مادّة ومدّة، فعالم الخلق في تسخيره وعالم الأمر في تدبيره واستيلاء الروحانيات على الجسمانيات بتقديره. وهاهنا مسائل ذكرها العلماء:

الأولى أنه تعالى متكلم آمر ناه مخبر مستخبر لأن قوله: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ دل على أن له الأمر فوجب أن يكون له النهي وسائر أنواع الكلام ضرورة أنه لا قائل بالفرق. الثانية لا خالق إلا هو لأن قوله: أَلا لَهُ الْخَلْقُ بتقديم الخبر يفيد الحصر. ولو سلم أنه لا يفيده فلا أقل من إفادة أنه خالق بعض الأشياء، وحينئذ يثبت المطلوب لأن افتقار المخلوق إلى الخالق لإمكانه والإمكان مفهوم واحد في الممكنات وإنه علة للحاجة إلى موجود معين، فجميع الممكنات محتاجة إلى ذلك المعين فالذي يكون مؤثرا في وجود شيء واحد يجب أن يكون هو المؤثر في جميع الممكنات ولا يحتاج إلى الممكنات. الثالثة قالت الأشاعرة:

كل أثر يصدر عن فلك أو ملك أو جني أو إنسي فخالق ذلك الأثر في الحقيقة هو الله تعالى لقوله: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ويتفرع على هذا أنه لا إله إلا الله وإلا كان الثاني مدبرا وخالقا، وأنه لا تأثير للكواكب في أحوال هذا العالم، وأن القول بالطبائع والعقول والنفوس على ما يزعم الفلاسفة وأصحاب الطلسمات باطل، وأن خالق أعمال العباد هو الله تعالى.

والقول بأن العلم يوجب العالمية والقدرة توجب القادرية باطل، كل ذلك لئلا يلزم خالق ومؤثر غير الله تعالى. الرابعة كلام الله تعالى قديم لأنه ميز بين الخلق وبين الأمر ولو كان أمر الله مخلوقا لما صح هذا التمييز. أجاب الجبائي بأنه لا يلزم من إفراد الأمر بالذكر عقيب الخلق أن لا يكون الأمر داخلا في الخلق كقوله: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [البقرة: ٩٨] وعارض الكعبي بقوله: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>