للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَنِّي

[البقرة: ١٨٦] ثم ختم الآية بقوله: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وللمسلمين اتفاق على أنه ليس معنى المحبة عند إطلاقها على الله شهوة النفس وميل الطبع ولكنها عبارة عن إيصاله الثواب والخير إلى العبد، وهذا مبني على قول الكعبي وأبي الحسين أنه تعالى غير موصوف بالإرادة، وأن كونه مريدا لأفعال نفسه عبارة عن إيجادها وفعلها، وكونه مريدا لأفعال غيره هو كونه آمرا بها. وأما الأشاعرة ومعتزلة البصرة القائلون بصفة الإرادة فإنهم فسروا المحبة بإرادة إيصال الثواب. وقال بعض العلماء: إنا نجد في الشاهد أن الأب يحب ابنه فيترتب على تلك المحبة إرادة إيصال الخيرات إلى ذلك الابن وكانت هذه الإرادة أثرا من آثار تلك المحبة وثمرة من ثمراتها. غاية ما في الباب أن هذه المحبة في الشاهد عبارة عن الشهوة وميل الطبع ورغبة في النفس وذلك في حقه تعالى محال. إلا أنا نقول: لم لا يجوز أن يقال أن محبة الله صفة أخرى يترتب عليها إيصال الثواب أو إرادة الإيصال؟ لكنا لا نعرف تلك المحبة ما هي وكيف هي لأن عدم العلم بالشيء لا يوجب العلم بعدم ذلك الشيء. نظير ذلك أن أهل السنة يثبتون كونه مرئيا ثم يقولون إن تلك الرؤية لا كرؤية الأجسام والألوان. ويعني بالمعتدين المجاوزين ما أمروا به فيشمل كل من خالف أمر الله ونهيه. وقال الكلبي وابن جريج:

من الاعتداء رفع الصوت في الدعاء ويؤيده أنه أمر بالدعاء مقرونا بالإخفاء وظاهره الوجوب إذ قد أثنى على زكريا فقال: إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا [مريم: ٣]

وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «دعوة في السر تعدل سبعين دعوة في العلانية»

وعنه صلى الله عليه وسلم «خير الذكر الخفي وخير الرزق ما يكفي» «١»

وعنه صلى الله عليه وآله: «سيكون قوم يعتدون في الدعاء وحسب المرء أن يقول اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل ثم قرأ قوله إنه لا يحب المعتدين» «٢»

ومن هنا اختلف أرباب الطريقة أن الأولى في العبادات الإخفاء أم الإظهار فقيل: الأولى الإخفاء صونا لها عن الرياء. وقيل: الأولى الإظهار ليرغب غيره في الاقتداء. وتوسط الشيخ محمد بن علي الحكيم الترمذي فقال: إن كان خائفا على نفسه من الرياء فالأولى في حقه الإخفاء، وإن بلغ في الصفاء وقوة اليقين إلى حيث صار آمنا من شائبة الرياء فالأولى في حقه الإظهار ليحصل فائدة الاقتداء. قال الشافعي: إظهار التأمين أفضل. وقال أبو حنيفة: الإخفاء أفضل لأنه إن كان دعاء وجب إخفاؤه لقوله: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً


(١) رواه أحمد في مسنده ١/ (١٧٢، ١٨٠، ١٨٧) .
(٢) رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب ٤٥. ابن ماجه في كتاب الدعاء باب ١٢. أحمد في مسنده (٤/ ٨٦، ٨٧) (٥/ ٥٥) . [.....]

<<  <  ج: ص:  >  >>