الكافر أو الفاسق لا يستفيد بالتكليف، إلا الضرر المحض لأنه تعالى يعلم أنه لا يؤمن ولا يطيع وخلاف علم الله محال فلا يحصل من الأمر إلا مجرد استحقاق العذاب وهذا لا يليق بالرحيم الحليم. وأيضا التكليف إن لم يكن لفائدة في الأمر فهو عبث، وإن كان لفائدة فلا بد أن تعود إلى المكلف لأنه سبحانه غني فجميع الفوائد منحصرة في تحصيل نفع أو دفع ضر والله تعالى قادر على تحصيلهما للمكلف من غير واسطة التكليف فكان توسيط التكليف إضرارا محضا. والجواب أن أوّل الآية دل على أنه تعالى هو الخالق لكل العبيد، وإذا كان خالقا لهم كان مالكا لهم، وتصرف المالك في ملك نفسه كيف شاء مستحسن، ويحسن منه تعالى أن يأمر عباده بما شاء بمجرد كونه خالقا لا كما يقول المعتزلة من كون ذلك الفعل صلاحا أو من كونه موجب عوض أو ثواب. ولما بين أن له الأمر والنهي والحكم والتكليف ذكر أنه يستحق الثناء والتقديس فقال: تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ وللبركة تفسيران: أحدهما الثبات والدوام ولا ريب أنه الواجب لذاته القائم بذاته الدائم الغني بذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه عن كل ما سواه. وثانيهما كثرة الآثار الفاضلة. ولا شك أن كل الخيرات والكمالات فائضة من جوده وإحسانه بل جميع الممكنات رشحة من بحار فضله وامتنانه. ثم لما بيّن كمال قدرته وحكمته وأرشد إلى التكليف الموصل إلى سعادة الدارين أتبعه ذكر ما يستعان به على تحصيل المطالب والمآرب الدينية والدنيوية فقال: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً قال في الكشاف: نصب على الحال أي ذوي تضرع وخفية وكذلك خَوْفاً وَطَمَعاً قلت: ويحتمل الانتصاب على المصدر مثل: رجع القهقرى. والتضرع التذلل وهو إظهار ذل النفس والخفية بالضم أو الكسر ضد العلانية. قال بعض العلماء: الدعاء هاهنا بمعنى العبادة لئلا يلزم التكرار وعطف الشيء على نفسه في قوله: وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً والأظهر أنه على الأصل. ومن الناس من أنكر الدعاء قال: لأن المطلوب بالدعاء إن كان معلوم الوقوع أو كان مرادا في الأزل أو كان على وفق الحكمة والمصلحة وقع لا محالة وإلا فلا فائدة فيه. وأيضا إنه نوع من سوء الأدب وعدم الرضا بالقضاء وقد يطلب ما ليس بنافع له. وفيه من الاشتغال بغير الله وعدم التوكل عليه ما لا يخفى. والحق أن الدعاء نوع من أنواع العبادة ورفضه يستدعي رفض كثير من السوائل والوسائط والروابط، ولو لم يكن فيه إلّا معرفة ذلة العبودية وعزة الربوبية لكفى بذلك فائدة، ولهذا
روي عنه صلى الله عليه وآله:«ما من شيء أكرم على الله سبحانه من الدّعاء»
إلا أنه لا بد فيه من الإخلاص والصون عن الرياء والسمعة، وإليهما أشار بقوله: تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ونحن قد أطنبنا في تحقيق الدعاء وشرائطه في سورة البقرة في تفسير قوله: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي