لأنها أجل الأوصاف وأدلها على حقيته، وذلك أنه لم يتفق له مطالعة كتاب ولا مصاحبة معلم لأنه ما كانت مكة بلدة العلماء وما غاب عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم غيبة طويلة يمكن التعلم فيها ومع ذلك فتح الله عليه أبواب العلم والتحقيق وأظهر عليه هذا القرآن الذي اشتمل على علوم الأوّلين والآخرين فليس ذلك إلا بتأييد سماوي وفيض إلهي. ثم وصفه بقوله الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ لأن النبي صلى الله عليه وآله يجب أن يكون ممن آمن بالله وبكتبه. وإنما لم يقل فآمنوا بالله وبي بعد قوله إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ بل عدل إلى المظهر ليمكن أن يجري عليه الصفات المذكورة. ولما في طريقة الالتفات من البلاغة، وليعلم أن الذي وجب الإيمان به واتباعه هو هذا الشخص المستقل بأنه النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته كائنا من كان، أنا أو غيري إظهارا للنصفة واحترازا عن العصبية. واعلم أن الكمالات إما نظرية وأشار إليها بقوله فَآمِنُوا بِاللَّهِ وإما عملية وإليها الإشارة بقوله وَاتَّبِعُوهُ والأولى إشارة إلى التكاليف المستفادة من أقواله، والثانية إشارة إلى المستفادة من أفعاله، فإن كل فعل يصدر عنه وقد واظب عليه فلا بد أن يكون جانب فعله ذلك الفعل جانب فعله راجحا على تركه. ثم إن ظاهر الأمر للوجوب فيجب علينا اتباعه وإن كان ذلك مندوبا له إلا أن يدل دليل منفصل على أن ذلك الفعل من خصائصه. ومعنى الترجي في لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ قد مر في نظائره ولا سيما في أوّل البقرة في قوله لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:
٢١] ثم لما ذكر الرسول وأنه يجب على الخلق متابعته ذكر أن في قوم موسى من اتبع الحق وهدي إليه فقال وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ أي يهدون الناس بكلمة الحق وَبِهِ أي بالحق يَعْدِلُونَ بينهم في الحكم لا يجورون. وهذه الآية متى حصلت وفي أي زمان كانت؟ اختلف المفسرون في ذلك. فقيل: هم اليهود الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله كعبد الله بن سلام وابن صوريا وغيرهما. ولفظ الأمة قد يطلق على القليل إذا كان لهم شأن كما أطلق على الواحد في قوله إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً [النحل:
١٢٠] وقيل: إنهم قوم ثبتوا على دين الحق الذي جاء به موسى ودعوا الناس إليه وصانوه عن التحريف والتبديل في زمن تفرق بني إسرائيل وإحداثهم البدع، ويجوز أن يكونوا أقاموا على ذلك إلى أن جاء المسيح فدخلوا في دينه، ويجوز أن يكونوا هلكوا قبل ذلك، وقال السدي وجماعة من المفسرين: إن بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم وكفروا وكانوا اثني عشر سبطا تبرأ سبط منهم مما صنعوا واعتذروا وسألوا الله أن يفرق بينهم وبين إخوانهم ففتح الله لهم نفقا في الأرض فساروا فيه سنة ونصفا حتى خرجوا من وراء الصين. ثم من المفسرين من قال: إنهم بقوا متمسكين بدين اليهودية إلى الآن بناء على أن خبر نبينا لم