للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الثالث والرابع: قوله تَضَرُّعاً وَخِيفَةً أي متضرعا وخائفا، فالتضرع لإظهار ذلة العبودية.

والخوف إما خوف العقاب فهو مقام المذنبين، وإما خوف الجلال وهو مقام العارفين فإذا كوشفوا بالجمال عاشوا وإذا كوشفوا بالجلال طاشوا، وأما خوف الخاتمة بل خوف السابقة فإنها علة الخاتمة. الخامس: قوله وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ والمراد أن يقع ذلك الذكر متوسطا بين الجهر والإخفاء. قال ابن عباس: هو أن يذكر ربه على وجه يسمع نفسه وإنما أخر هذا عن الذكر القلبي لأن الخيال يتأثر من الذكر القلبي فيوجب قوة في النفس ولا يزال يتزايد في ذلك إلى أن يجري الذكر على لسانه بل يسري في جميع أعضائه وجوارحه وأركانه سريانا معتدلا خاليا عن التكلف بريئا من التعسف. السادس: قوله بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ والغدوّ مصدر غدا يغدو والمراد وقت الغدو كما يقال دنا الصباح أي وقته.

وقيل: إنه جمع غدوة وأما الآصال فإنها جمع الأصيل وهو الوقت بعد العصر إلى المغرب. وقد يقال: اشتقاقه من الأصل واليوم بليلته. إنما يبتديء في الشرع من أول الليل فسمي آخر النهار أصيلا لكونه ملاصقا لما هو الأصل لليوم الثاني. وخص هذان الوقتان بالذكر لأن الغدو عند ما ينقلب الحيوان من النوم الذي هو كالموت إلى اليقظة التي هي كالحياة، والعالم يتحول من الظلمة التي هي طبيعة عدمية إلى النور الذي هو طبيعة وجودية، وفي الآصال الأمر بالضد وهدان النوعان من التغير العجيب دليلان قاهران باهران على وجود صانع قدير وحكيم خبير فوجب أن يكون المكلف فيهما مشتغلا بالذكر والحضور، ويمكن أن يكون المراد مداومة الذكر والمواظبة عليه بقدر الإمكان. السابع:

قوله وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ وفيه إشارة إلى أن الذكر القلبي يجب أن يداوم عليه ولا يزال الإنسان يستحضر جلال الله وكبرياءه بحسب الطاقة البشرية ليتنور جوهر النفس ويستعد لقبول الإشراقات القدسية فيضاهي سكان حظائر الجبروت مدحهم الله بقوله إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ ومعنى عند دنو الشرف والقرب من عنايته وألطافه لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ فيداومون على ذلك وَيُسَبِّحُونَهُ يبرئونه وينزهونه عن كل سوء وهذا يرجع إلى المعارف والعلوم وَلَهُ يَسْجُدُونَ بحضرته بغاية الخضوع والاستكانة، وهذا يعود إلى أعمال الجوارح. وفي هذا الترتيب دليل على أن الأصل في الطاعة والعبودية أعمال القلوب ويتفرع عليه أعمال الجوارح. والمقصود من الآية أن الملائكة مع غاية طهارتهم ونهاية عصمتهم وبراءتهم عن بواعث الشهوة والحسد والغضب ودواعي الحقد والحسد يواظبون على العبودية والطاعة، فالإنسان مع كونه مبتلى بظلمات عالم الطبيعة وكدورات الزلات البشرية أولى بأن يداوم على ذكر معبوده، وينجذب ما أمكن إلى العالم العقلي ومقره الأصلي ويصفي مرآة قلبه عن أصداء الهواجس وينتقش بالجلايا القدسية والمعارف الحقية

<<  <  ج: ص:  >  >>