نقضوا العهد قبل كمال المدة وإن نقضت المدة والحاجة باقية استأنف العقد. ثم قال وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي فوض الأمر فيما عقدته معهم إلى الله ليكون عونا لك على السلامة وينصرك عليهم. إذا نقضوا العهد وعدلوا عن الوفاء كما كان من شأن قريظة والنضير.
وعن مجاهد نزلت فيهم إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ للأقوال الْعَلِيمُ بالأحوال. وفيه زجر عن نقض الصلح ما أمكن. ثم ذكر حكما من أحكام المهادنة فقال وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ محسبك وكافيك اللَّهُ والمعنى أنهم إن صالحوا على سبيل المخادعة وجب قبول ذلك الصلح لأن الحكم فيه يبنى على الظاهر كما أن أصل الإيمان مبني على الظاهر. ولا تنافي بين هذه الآية وبين ما تقدم من قوله وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ [الأنفال: ٥٨] لأن هذه المخادعة محمولة على أمور خفية تدل على الغل والنفاق، وذلك الخوف محمول على أمارة قوية يدل على كونهم قاصدين للشر وإثارة الفتنة. ثم أكد كون الله تعالى كافيا له بقوله هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ أي من غير واسطة أسباب معتادة. وَبِالْمُؤْمِنِينَ أي بوساطة الأنصار. ثم بين أنه كيف أيده بالمؤمنين فقال وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ قال جمع من المفسرين: هم الأوس والخزرج كان بينهم من الحروب والوقائع ما أهلك أشرافهم ودق جماجمهم، فرفع الله تعالى ذلك بلطيف صنعه، والأولى حمله على العموم والتأليف بين قلوب من بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآيات الباهرة لأن العرب لما فيهم من الحمية والعصبية والانطواء على الضغائن في الأمور المستحقرة لم تكد تأتلف أهواؤهم وينتظم شملهم، ثم ائتلفت قلوبهم على اتباع رسول الله حتى بذلوا دونه المهج والأرواح والأموال فليس ذلك الأمن مقلب القلوب والأحوال.
والتحقيق في الباب أن المحبة لا تحصل إلا عند تصور حصول خير من المحبوب. ثم إن كان سبب انعقاد المحبة أمرا سريع التغير كالمال أو الجاه أو اللذة الجسمانية كانت تلك المحبة بصدد الزوال والاضمحلال، فالمعشوق يريد العاشق لماله، والعاشق يحب المعشوق لاستيفاء لذة بهيمية، فمهما حصل مرادهما كانا متحابين ومتى لم يحصل عادا متباغضين وإن كان سبب انعقاد المودة كمالا حقيقيا روحانيا دائما لم يتصور لها تغير وزوال. ثم إن العرب كانوا قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم مقبلين على المفاخرة والتسابق في المال والجاه والتعصب والتفرق، فلا جرم كانوا متحابين تارة ومتباغضين أخرى، فلما جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى عبادة الله تعالى والإعراض عن الدنيا والإقبال على تحصيل السعادة الأبدية الروحانية توحد مطلبهم وصاروا إخوانا متراحمين متحابين في الله ولله. إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أي قادر قاهر على تقليب القلوب والدواعي فاعل لكل ما يفعل على وجه الإحكام والإتقان أو على حسب المصالح على اختلاف القولين في مسألة الجبر