ريب أن كمال السعادة منوط بهذا المعنى جعلنا الله من أهلها. لما أوجب الله سبحانه بعد انسلاخ الأشهر الحرم قتل المشركين دل ذلك على أن حجة الله تعالى قد قامت عليهم وأن ما ذكره الرسول قبل ذلك من أنواع الدلائل والبينات كفي في إزاحة علتهم فينتج ذلك أن أحدا من المشركين لو طلب الدليل والحجة يلتفت إليه بل يطالب إما بالإسلام أو بالجزية أو بالقتل، فأزال الله تعالى بكمال رأفته هذه الشبهة فقال وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ الآية. قال علماء العربية: ارتفع أَحَدٌ بفعل مضمر يفسره الظاهر تقديره:
وإن استجارك أحد استجارك. كرهوا الجمع بين المفسر والمفسر فحذفوا المفسر.
والغرض بناء الكلام على الإبهام ثم التفسير من حيث إنّ «إن» من مظان وقوع الفعل بعده. وأيضا ذكر الفاعل هاهنا أهم لما بينا أن ظاهر الدليل يقتضي إباحة دم المشرك فقدم ليدل على مزيد العناية بصون دمه عن الإهدار. يقال: استجرت فلانا أي طلبت منه أن يكون جارا لي أي محاميا وحافظا من أن يظلمني ظالم، ومنه يقال: أجاره الله من العذاب أي أنقذه. والمعنى وإن جاءك أحد من المشركين بعد انسلاخ الأشهر لا عهد بينك وبينه.
فاستأمنك ليسمع ما تدعو إليه من التوحيد والقرآن فأمنه حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ سماع تدبر وتأمل ثُمَّ أَبْلِغْهُ داره التي يأمن فيها إن لم يسلم ثم قاتله إن شئت فيها، وفيه أن المقصود من شرع القتل قبول الدين والإقرار بالتوحيد وأن النظر في دين الله من أعلى المقامات فإن الكافر الذي دمه مهدر لما أظهر من نفسه كونه طالبا للنظر والاستدلال زال ذلك الإهدار ووجب على الرسول أن يبلغه مأمنه، أما زمان مهلة النظر فليس في الآية ما يدل على ذلك ولعله مفوّض إلى اجتهاد الإمام، فمتى ظهر على ذلك المشرك علامات كونه طالبا للحق باحثا عن وجه الاستدلال أمهل وترك، ومتى ظهر عليه كونه معرضا عن الحق دافعا للزمان بالأكاذيب لم يلتفت إليه وأبلغ المؤمن. ويشبه أن يقال: المدة أربعة أشهر وهو الصحيح من مذهب الشافعي. والمذكور في الآية كونه طالبا لسماع القرآن إلا أنه ألحق به كونه طالبا لسماع الدلائل والجواب الشبهات لأنه تعالى علل وجوب الإجارة بكونه غير عالم حيث قال في آخر الآية ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ فكل من حصلت فيه هذه العلة وجبت إجارته. وفي سماع كلام الله وجوه: قيل أراد جميع القرآن لأن تمام الدلائل والبينات فيه. وقيل: سماع سورة براءة لأنها مشتملة على كيفية المعاملة مع المشركين والأولى حمله على كل الدلائل، وإنما خص القرآن بالذكر لأنه الكتاب الحاوي لمعظم الدلائل. واعلم أن الأمان قد يكون عاما يتعلق بأهل إقليم أو بلدة أو ناحية وهو عقد المهادنة ويختص بالإمام وقد مر في تفسير قوله تعالى وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها