فائدة أخرى هي أنه لما أمر بالبراءة من الكفار بين غاية قدرته ونهاية نصرته لمن أراد استظهارا للمسلمين كيلا تضعف قلوبهم بالانقطاع عن الأقارب والأنصار كأنه قال:
وجب عليكم أن تفيئوا إلى حكمي وتكاليفي لأني إلهكم وأنتم عبيدي.
ثم عاد إلى بقية أحكام الكفار فقال لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ الآية. ولنبن تفسير الآيتين على أسئلة مع جواباتها. فالسؤال الأول: أن قبول التوبة دليل سبق الذنب، والنبي معصوم والمهاجرون والأنصار الذين اتبعوه تحملوا أعباء ذلك السفر الطويل فكان اللائق بحالهم أن يثني عليهم. والجواب أنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار لأنه لا ينفك عن هفوة إما من باب الكبائر وإما من باب الصغائر وإما من باب ترك الأولى. والأفضل كما أشير إلى ذلك في حق النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة: ٤٣] ولعله قد وقع في قلوب المؤمنين نوع نفرة من تلك السفرة لما عاينوا المتاعب ولا أقل من الوساوس والهواجس فأخبر الله سبحانه أن تلك الشدائد صارت مكفرة لجميع الزلات التي صدرت عنهم في ذلك السفر الطويل بل في مدة عمرهم وصارت قائمة مقام التوبة المقرونة بالإخلاص. ويجوز أن يكون ذكر الرسول لأجل تعظيم شأن المهاجرين والأنصار لا لأنه صدر عنه ذنب. السؤال الثاني: ما المراد بساعة العسرة؟
فالجواب قد تستعمل الساعة في معنى الزمان المطلق والعسرة تعذر الأمر وصعوبته.
والمراد الزمان الذي صعب عليهم الأمر جدا في ذلك السفر، كانوا في عسرة من الظهر تعتقب العشرة على بعير واحد، وفي عسرة من الزاد تزوّدوا التمر المدود والشعير المسوس والإهالة الزنخة المنتنة، وقد بلغت بهم الشدة إلى أن اقتسم التمرة اثنان ثم إلى أن مصتها جماعة ليشربوا عليها الماء، وفي عسرة من الماء حتى نحروا الإبل واعتصروا فروثها وفي شدة زمان من حرارة القيظ كما قال المنافقون لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ [التوبة:
٨١] وقال أبو مسلم: يجوز أن يراد بساعة العسرة جميع الأحوال والأوقات العسرة التي مرت عليهم في غزواتهم كما ذكر الله تعالى في غزوة الخندق وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ [الأحزاب: ١٠] الثالث: ما معنى كادَ يَزِيغُ وكيف إعرابه؟ والجواب هما استعمالان: كاد زيد يخرج، وكاد يخرج زيد. ومعنى الأول كاد زيد خارجا أي قارب الخروج، ومعنى الثاني كاد الشأن يكون كذا يعني قارب الشأن هذا الخبر. وشبهه سيبويه بقولهم ليس خلق الله مثله أي ليس الشأن ذاك ولكن ضده، والزيغ الميل عن الجادة قيل:
قارب بعضهم أن يميل عن الإيمان. وقيل: هم بعضهم عند تلك الشدة بالمفارقة ثم