وكلا الأمرين ليس بعجب، أما الأول فلأن الجنس إلى الجنس أميل وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا [الأنعام: ٩] قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا. [الاسراء: ٩٥] . وأما الثاني فلأن الفقر واليتم لا يوجب في النبوة قدحا لأن الله غني عن العالمين وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى [سبأ: ٣٧] وإنما المعتبر في الاستنباء كونه متصفا بالصدق والأمانة والتقوى، وكان لمحمد صلى الله عليه وسلم في ذلك قبل بعثه اليد الطولى إذ كان يدعى محمدا الأمين. و «أن» في قوله: أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ هي المفسرة لأن الإيحاء فيه معنى القول، أو مخففة من الثقيلة وقد عملت في ضمير شأن مقدر معناه إنه أي إن الشأن قولنا أنذر الناس. وقوله: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ أي بأن لهم، والإنذار إخبار مع تخويف وإنه عام للناس كلهم، ولكن البشارة خاصة بالمؤمنين. ويحتمل أن يراد بالناس الكفار فقط ويمكن أن يكون تعجبهم عائدا إلى الإنذار والتبشير وليس ذلك بعجب بل المنكر في العقول تعطيل الأعمال وأن يترك الإنسان سدى، وإرسال الرسل أمر ما أخلى الله تعالى المكلفين عنه شيئا من الأزمنة، وبه تتم المالكية والأمر والنهي والإذن والمنع والثواب والجزاء. وإنما قدم الإنذار على التبشير لأن الإنذار تحذير عن فعل ما لا ينبغي، والتبشير ترغيب في فعل ما ينبغي والتخلية مقدمة على التحلية. ومعنى قَدَمَ صِدْقٍ سابقة فضل ومنزلة رفيعة أي سبق لهم عند الله خير. قال أحمد بن يحيى: القدم كل ما قدمت من خير. وقال ابن الأنباري: كناية عن العمل الذي لا يقع فيه تأخير ولا إبطاء. والسبب في إطلاق القدم على السابقة أن السعي والسبق لا يحصل إلا بالقدم فسمي المسبب باسم السبب كما سميت النعمة يدا لأنها تعطى باليد، وإضافة القدم إلى صدق لأجل المبالغة وللتنبيه على أنها من السوابق العظيمة أي القدم التي يصدق ويحق أن تسمى قدما. وأما عبارات المفسرين فمنهم من قال: قدم صدق هي الأعمال الصالحة، ومنهم من قال الثواب، ومنها من قال شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم. أما قوله: قالَ الْكافِرُونَ فقال القفال: فيه إضمار والتقدير: فلما أنذرهم قالوا ذلك. ثم من قرأ لساحر بالألف فقوله هذا إشارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومن قرأ السحر فهو إشارة الى القرآن وفيه دليل على عجزهم واعترافهم بأنهم قاصرون عن معارضته كالسحر، ومن هنا جوز بعضهم أن يكونوا أرادوا به المدح أي إنه لكمال فصاحته وتعذر الإتيان بمثله جار مجرى السحر. ثم لما أنكر عليهم تعجبهم من الأمور المذكورة وهي الواسطة أراد أن يقيم البرهان عليها بإثبات المبدأ ويبين غايتها بإثبات المعاد وذلك في آيتين متواليتين. وقد مر في الأعراف تفسير قوله: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ