للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يكون في الأحكام والتعبدات لا في ترتيب العقاب على المعصية. قال المفسرون: هذا الالتماس منهم يحتمل أن يكون على سبيل السخرية. فقد روى مقاتل والكلبي أنهم خمسة نفر من مشركي مكة وهم المستهزءون في قوله: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر:

٩٥] . ويحتمل أن يكون على سبيل التجربة والامتحان حتى إنه إن فعل ذلك علموا أنه كاذب، أو أرادوا أن هذا القرآن مشتمل على ذم آلهتهم فطلبوا قرآنا آخر لا يكون كذلك.

ثم أكد كون هذا القرآن من عند الله سبحانه وأنه غير مستبد في إيراده فقال: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ ولا أعلمكم الله بِهِ على لساني. ومن قرأ بلام الابتداء فمعناه ما تلوته أنا عليكم ولأخبركم الله به على لسان غيري، ولكنه يمنّ على من يشاء من عباده فرآني أهلا لذلك دون غيري. وقرىء لا أَدْراكُمْ بِهِ بالهمزة. ووجهه أن تكون الهمزة مقلوبة من الألف، أو يكون من الدرء الدفع. ومعنى ادرأته جعلته دارئا أي لم أجعلكم بتلاوته خصما تدرؤنني بالجدال وتكذبونني فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً أي بعضا معتبرا من العمر وهو أربعون سنة مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل نزول القرآن أَفَلا تَعْقِلُونَ فيه قدح في صحة عقولهم لأن ظهور مثل هذا الكتاب العظيم المشتمل على علوم الأوّلين والآخرين المعجز للثقلين عن معارضته على من عرفوا حاله من عدم التعلم والمدارسة ومخالطة العلماء إذا شك فيه أنه من قبيل الوحي والمدد السماوي، كان ذلك إنكارا للضروريات وافتراء على الله فلهذا قال فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً الآية. وفيه أن هذا القرآن لو لم يكن من عند الله ثم نسبه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الله لم يكن أحد أظلم منه.

ثم قبح الله أصنامهم معارضة لهم بنقض مقصودهم من الالتماس فقال وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ إن لم يعبدوه وَلا يَنْفَعُهُمْ إن عبدوه ومن حق المعبود أن يكون مثيبا معاقبا. وفيه إشعار بأنها جماد، والمعبود لا بد أن يكون أكمل من العابد، وإذا كانت المنافع والمضار كلها من الله فلا تليق العبادة إلا له وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ.

قد ذكرنا وجه ذلك في أوائل سورة البقرة في قوله: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الآية: ٢٢] ثم أنكر عليهم معتقدهم بقوله: قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ والمراد انه لا وجود لكونهم شفعاء إذ لو كان موجودا لكان معلوما للعالم بالذات المحيط بجميع المعلومات وهذا مجاز مشهور. تقول: ما علم الله ذلك مني. والمقصود أنه ما وجد منك ذلك قط. وفي قوله: فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ تأكيد آخر لنفيه لأن ما لم يوجد فيهما فهو منتف معدوم. قوله: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ إما أن يكون من تمام ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم، أو ابتداء كلام من الله تعالى تنزيها لنفسه عن إشراكهم أو عن

<<  <  ج: ص:  >  >>