كقوله: قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ [الأعراف: ١٩٥] واعلم أنه عليه السلام قال في أول الأمر فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ ليدل على أنه واثق بوعد الله جازم بأن تهديدهم إياه بالقتل لا يضره، ثم أورد عليهم ما يدل على صحة دعواه فقال: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ كأنه قال:
حصلوا كل ما تقدرون عليه من الأسباب المؤدية الى مطلوبكم غير مقتصرين على ذلك بل ضامين إلى أنفسكم شركاءكم الذين تزعمون أن حالكم يقوى بمكانهم. ثم ضم إلى ذلك قيدا آخر فقال: ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً قال أبو الهيثم: أي مبهما من قولهم غم علينا الهلال فهو مغموم أي التبس. وقال الليث: لقي غمة من أمره إذا لم يهتد له. وقال الزجاج: أي ليكن أمركم الذي أجمعتموه ظاهرا منكشفا أي تجاهرونني بالإهلاك. ويحتمل أن يراد بهذا الأمر العيش والحال أي أهلكوني لئلا يكون عيشكم بسببي غصة وحالكم عليكم غمة أي غما وهما والغم والغمة كالكرب والكربة. ثم زاد قيدا آخر فقال: ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ ذلك الأمر الذي تريدون بي أي أدوا إليّ قطعه واحكموا بصحته وإمضائه.
وعن القفال أن فيه تضمينا والمعنى ألقوا إليّ ما استقر عليه رأيكم محكما مفروغا منه. ثم ختم الكلام بقوله: وَلا تُنْظِرُونِ أي عجلوا ذلك بأشد ما تقدرون عليه من غير إهمال، ومعلوم أن مثل هذا الكلام لا يصدر إلا عمن بلغ في التوكل الغاية القصوى. ثم بين أن كل ما أتى به فإن ذلك فارغ من الطمع الدنيوي والغرض الخسيس فقال: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أعرضتم عن نصحي وتذكيري فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فما كان عندي ما ينفركم عني وتتهمونني لأجله من طمع أو غرض عاجل إِنْ أَجْرِيَ ليس أجري إِلَّا عَلَى اللَّهِ أي ما نصحتكم إلا لوجهه ولا يثيبني إلا هو. وفي الآية نكتة كأنه أراد أنه لا يخاف منهم بوجه من الوجوه لا بإيصال الشر وذلك قوله: فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ إلى آخره. ولا بانقطاع الخير منهم وذلك قوله: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ الآية. وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أي سواء قبلتم دين الإسلام أو لم تقبلوه فأنا مأمور بأن أكون على دين الإسلام، أو مأمور بالاستسلام لكل ما ألقى من قبل هذه الدعوة. فَكَذَّبُوهُ بقوا على تكذيبهم إلى آخر المدة المتطاولة.
فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ قد ذكرنا في «الأعراف» الفرق بين هذه العبارة وبين ما هنالك وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ يخلفون الهالكين بالطوفان فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ تعظيم لشأن إهلاكهم وتحذير لغيرهم وتسلية للنبي صلّى الله عليه وسلم ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ من بعد نوح رُسُلًا كهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالحجج الواضحات والمعجزات الباهرات فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ الآية وقد مر تفسيرها في أواسط الأعراف إلا أنه زيد هاهنا لفظة «به» فقيل: لتناسب ما قبله وهو كَذَّبُوا