لأجل الاكتفاء به عن ياء الإضافة، وبفتحها اكتفاء به عن الألف المبدلة من الياء، ويجوز أن يكون الياء والألف ساقطتين من اللفظ فقط لالتقاء الساكنين. ثم حكى إصرار ابنه على الكفر بأن قال سَآوِي إِلى جَبَلٍ فأجاب نوح بأنه لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ واعترض عليه بأن معنى مَنْ رَحِمَ من رحمه الله وهو معصوم فكيف يصح استثناؤه من العاصم؟ وأجيب بأن «من» فاعلة في المعنى لا مفعول، والمراد نوح لأنه سبب الرحمة والنجاة كما أضيف الإحياء إلى عيسى عليه السلام، أو الرحيم الذي مر ذكره في قوله: إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وهو عاصم لا معصوم، أو هو استثناء مفرغ والتقدير لا عاصم اليوم لأحد من أمر الله إلا لمن رحم، أو العاصم بمعنى ذو العصمة كلابن وتامر.
وذو العصمة المعصوم أو المضاف محذوف والتقدير لا عاصم قط إلا مكان من رحمهم الله ونجاهم يعني السفينة، أو هو استثناء منقطع كأنه قيل: ولكن من رحمه الله فهو المعصوم وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ أي بسبب هذه الحيلولة خرج من أن يخاطبه نوح فصار من جملة الغرقى.
قوله سبحانه: وَقِيلَ يا أَرْضُ الآية. مما اختص بمزيد البلاغة حتى صارت متداولة بين علماء المعاني فتكلموا فيها وفي وجوه محاسنها فلا علينا أن نورد هاهنا بعض ما استفدنا منهم فنقول: النظر فيها من أربع جهات: من جهة علم البيان، ومن جهة علم المعاني، ومن جهتي الفصاحتين المعنوية واللفظية. أما من جهة علم البيان وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بها. فالقول فيه أنه عز سلطانه أراد أن يبين معنى أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد، وأن نقطع طوفان السماء فانقطع، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض، وأن نقضي أمر نوح وهو إنجاؤه وإغراق قومه كما وعدناه فقضي، وأن تستوي السفينة على الجودي- وهو جبل بقرب الموصل- فاستوت، وأبقينا الظلمة غرقى، فبنى الكلام على تشبيه الأرض والسماء بالمأمور الذي لا يتأتى منه- لكمال هيبته- العصيان، وعلى تشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكوّن المقصود تصويرا لاقتداره، وأن السماء والأرض مع عظم جرمهما تابعتان لإرادته إيجادا وإعداما وتغييرا وتصريفا كأنهما عقلاء مميزون قد أحاطا علما يوجب الامتثال والإذعان لخالقهما، فاستعمل قِيلَ بدل «أريد» مجازا إطلاقا للمسبب على السبب، فإن صدور القول إنما يكون بعد إرادته. وجعل قرينة المجاز الخطاب للجماد بقوله: يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ والخطابان أيضا على سبيل الاستعارة للشبه المذكور وهو كون السماء والأرض كالمأمورين المنقادين. وأيضا