بلئيم حاجة فلم يجبك إليها فقلت: كذلك أنزلها باللئام تعني مثل هذا الإنزال أنزلها بهم مردودة غير مقضية. واعترض بأن النون إنما يستعمله الواحد المتكلم إظهارا للعظمة والجلال ومثل هذا التعظيم إنما يحسن ذكره إذا فعل فعلا يظهر له أثر قويّ كامل، أما إذا فعل بحيث يكون منازعه ومدافعه غالبا عليه فإنه يستقبح ذكره على سبيل التعظيم، والأمر هاهنا كذلك لأنه تعالى سلك استماع القرآن وتحفيظه وتعليمه في قلب الكافر لأجل أن يؤمن به، ثم إنه لم يلتفت إليه ولم يؤمن به فصار فعل الله كالهدر الضائع وصار الشيطان كالغالب المدافع فكيف يحسن ذكر النون المشعر بالتعظيم في هذا المقام؟ أما قوله وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ فقيل: أي طريقتهم التي بينها الله في إهلاكهم حين كذبوا برسلهم وبالذكر المنزل عليهم، وهذا يناسب تفسير المعتزلة، وفيه وعيد لأهل مكة على تكذيبهم.
وقيل: قد مضت سنة الله في الأولين بأن يسلك الكفر والضلال في قلوبهم وهذا قول الزجاج، ويناسب تفسير الأشاعرة. ثم حكى إصرارهم على الجهل والتكذيب بقوله وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا أي هؤلاء الكفار فِيهِ يَعْرُجُونَ يتصاعدون لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا هو من سكر الشراب أو من سكر سدّ الشق يقال: سكر النهر إذا سدّه وحبسه من الجري. والتركيب يدل على قطع الشيء من سننه الجاري عليه ومنه السكر في الشراب لأنه ينقطع عما كان عليه من المضاء في حال الصحو. فمعنى الآية حيرت أبصارنا ووقع بها من فساد النظر ما يقع بالرجل السكران، أو حبست عن أفعالها بحيث لا ينفذ نورها ولا تدرك الأشياء على حقائقها. عن ابن عباس: المراد لو ظل المشركون يصعدون في تلك المعارج وينظرون إلى ملكوت الله تعالى وقدرته وسلطانه وإلى عبادة الملائكة الذين هم من خشية ربهم مشفقون لتشككوا في تلك الرؤية وبقوا مصرين على كفرهم وجهلهم كما جحدوا سائر المعجزات من انشقاق القمر وما خص به النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن المعجز الذي لا يستطيع الجن والإنس أن يأتوا بمثله. قال في الكشاف: ذكر الظلول يعني أنه قال فَظَلُّوا ولم يقل «فباتوا» ليجعل عروجهم بالنهار ليكونوا مستوضحين لما يرون. وقال: إنما سكرت ليدل على أنهم يبتون القول بأن ذلك ليس إلا تسكيرا للأبصار. وقيل: الضمير في فَظَلُّوا للملائكة أي لو أريناهم الملائكة يصعدون في السماء عيانا لقالوا: إن السحرة سحرونا وجعلونا بحيث نشاهد هذه الأباطيل التي لا حقيقة لها. وهاهنا سؤال وهو أنه كيف جاز من جم غفير أن يصيروا شاكين فيما يشاهدونه بالعين السليمة في النهار الواضح؟ وأجيب بأنهم قوم مخصوصون لم يبلغوا مبلغ التواتر وكانوا رؤساء قليلي العدد فجاز تواطؤهم على المكابرة والعناد لا سيما إذا جمعهم غرض معتبر كدفع حجة أو غلبة خصم.