ولما أجاب عن شبه منكري النبوة بما أجاب وكان القول بالنبوة مفرعا على القول بالصانع أتبعه دلائل ذلك فقال وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وهي اثنا عشر عند أهل النجوم، وذلك أنهم قسموا نطاق الفلك الثامن عندهم باثني عشر قسما متساوية، ثم أجيز بمنتهى كل قسم وبأوله مبتدأة من أول الحمل نصف دائرة عظيمة مارة بقطبي الفلك فصار الفلك أيضا منقسما باثنتي عشرة قطعة كل منها تشبه ضلعا من أضلاع البطيخ تسمى برجا.
ولا شك أن هذه البروج مختلفة الطباع، كل ثلاثة منها على طبيعة عنصر من العناصر الأربعة فلذلك يسمى الحمل والأسد والقوس مثلثة نارية، والثور والسنبلة والجدي مثلثة أرضية، والجوزاء والميزان والدلو مثلثة هوائية، والسرطان والعقرب والحوت مثلثة مائية.
ثم إن كانت أجزاء الفلك مختلفة في الماهية على ما يجوّزه المتكلمون، أو كانت متساوية في تمام الماهية مختلفة في التأثير كما يقول به الحكيم، فعلى التقديرين يكون اختصاص كل جزء بطبيعة معينة أو بتأثير معين مع تساوي الكل في حقيقة الجسمية دالا على صانع حكيم ومدبر قدير. الدليل الآخر قوله وَزَيَّنَّاها أي بالشمس والقمر والنجوم لِلنَّاظِرِينَ بنظر الاعتبار والاستبصار. وقال المنجمون: إن الكواكب الثابتة كلها على الفلك الثامن وهذا لا ينافي الآية على ما يمكن أن يسبق إلى الوهم، لأنها سواء كن في سماء الدنيا أو في سموات أخر فوقها فلا بد أن يكون ظهورها في السماء الدنيا فتكون السماء الدنيا مزينة بها، والآية لا تدل إلا على هذا القدر. ونظير هذه الآية قوله تعالى في «حم السجدة» وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ [فصلت: ١٢] ومثله في سورة الملك. الدليل الثالث قوله وَحَفِظْناها أي البروج أو السماء مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ نصب على الاستثناء المنقطع أي لكن من استرق وجائز أن يكون مخفوضا أي إلا ممن استرق.
وعن ابن عباس: يريد الخطفة اليسيرة فَأَتْبَعَهُ أي أدركه ولحقه شِهابٌ مُبِينٌ ظاهر للمبصرين والشهاب شعلة نار ساطع، وقد يسمى الكوكب شهابا لأجل لمعانه وبريقه. قال ابن عباس: كانت الشياطين لا يحجبون من السموات وكانوا يدخلونها ويسمعون أخبار الغيوب من الملائكة فيلقونها على الكهنة، فلما ولد عيسى عليه السلام منعوا من ثلاث سموات، فلما ولد محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من السموات كلها وهذا هو المراد بحفظ السموات كما لو حفظ أحدنا منزله ممن يتجسس ويخشى منه الفساد. والاستراق السعي في استماع الكلام مستخفيا. قال الحكماء: إن الأرض إذا سخنت بالشمس ارتفع منها بخار يابس، فإذا بلغ النار التي دون الفلك احترق بها واشتعل لدهنية فيه فيحدث منها أنواع النيران من جملتها الشهب، فلا ريب أنها كانت موجودة قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنها لم تكن مسلطة