للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إن يوم السبت هو اليوم الذي قد فرغ الله فيه من الأعمال فنحن نوافق ربنا. فما وجه جعل الجمعة عيدا؟ والجواب بعد التعبد هو أن يوم الجمعة يوم التمام والكمال وذلك يوجب الفرح والسرور فجعله عيدا أولى. ثم أوعد اليهود بقوله: وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ إلخ. ولما أمر محمدا باتباع إبراهيم صلى الله عليه وسلم بين وجه المتابعة فقال: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ الآية. وفيه أن طريقة إبراهيم صلى الله عليه وسلم في الدعوة كانت هكذا. وتقرير ذلك أن الداعي إلى مذهب ونحلة لا بد أن يكون قوله مبنيا على حجة وهي إما أن تكون يقينية قطعية مبرأة من شائبة احتمال النقيض، وإما أن تكون مفيدة للظن القوي والإقناع التام وإلا لم يكن ملتفتا إليها في العلوم. وقد يكون الجدال والخصام غالبا على المدعو فيحتاج حينئذ إلى إلزامه وإفحامه بدليل مركب من مقدمات مشهورة مسلمة عند الجمهور، أو مقدمات مسلمة عند الخصم.

فقوله: بِالْحِكْمَةِ إشارة إلى استعمال الحجج القطعية المفيدة لليقين، والمكالمة بهذا الطريق إنما تكون مع الطالبين البالغين في الاستعداد إلى درجة الكمال. وقوله:

وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ إشارة إلى استعمال الدلائل الإقناعية الموقعة للتصديق بمقدمات مقبولة، وأهل هذه المكالمة أقوام انحطت درجتهم عن درجة الطائفة الأولى إلا أنهم باقون على الفطرة الأصلية طاهرون عن دنس الشغب وكدورات الجدال وهم عامة الخلق. وليس للدعوة إلا هذان الطريقان، ولكن الداعي قد يضطر مع الخصم الألد إلى استعمال الحجج الملزمة المفحمة كما قلنا فلهذا السبب عطف على الدعوة قوله: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي أي بالطريقة بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فكان طريق الجدال لم يكن سلوكه مقصودا بالذات وإنما اضطر الداعي إليه لأجل كون الخصم مشاغبا. وإنما استحسن هذا الطريق لكون الداعي محقا وغرضه صحيحا، فإن كان مبطلا وأراد تغليط السامع لم يكن جداله حسنا ويسمى دليله مغالطة. هكذا ينبغي أن يتصوّر تفسير هذه الآية فإن كلام المفسرين الظاهريين فيه غير مضبوط. وجوّز في الكشاف أن يريد القرآن أي ادعهم بالكتاب الذي هو حكمة وموعظة حسنة وجادلهم بأحسن طرق المجادلة من الرفق واللين من غير فظاظة ولا تعنيف.

ولما حث على الدعوة بالطرق المذكورة بين أن الهداية والرشد ليس إلى النبي وإنما ذلك إلى الله تعالى فقال: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ الآية. أي هو العالم بضلال النفوس واهتدائها وكدورتها وبمن جعل الدعوة سببا لسعادتها أو واسطة لشقائها. ثم إن الدعوة تتضمن تكليف المدعوّين بالرجوع عن الدين المألوف، والفطام منه شديد وربما تنجر المقاولة إلى المقاتلة، فحينئذ أمر الداعي وأتباعه برعاية العدل والإنصاف في حال القتال قائلا وَإِنْ عاقَبْتُمْ أي إن رغبتم في استيفاء القصاص إن وقع قتل فاقنعوا بالمثل ولا

<<  <  ج: ص:  >  >>