المسبب على السبب وجوز أن يكون الإعراض كناية عن عدم الإعطاء، فإن من أبى أن يعطى أعرض بوجهه، ولما ذكر أدب المنع ونهى عن التبذير صرح بأدب الإنفاق فقال:
وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وهو مثل لغاية الإمساك بحيث يضيق على نفسه وأهله في سلوك سبيل الإنفاق وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ أي لا توسع في الإنفاق بحيث لا يبقى في يدك شيء. وحين نهى عن طرفي التفريط والإفراط المذمومين بقي الخلق الفاضل المسمى بالجود وهو العدل والوسط، ثم بين غاية استعمال الطرفين قائلا: فَتَقْعُدَ مَلُوماً عند الناس بالبخل مَحْسُوراً بالإسراف أي منقطعا عن المقاصد بسبب الفقر. فقير محسور منقطع عن السير. ولا شك أن المال مطية الحوائج والآمال وكثيرا ما يلام الرجل على تضييع المال بالكلية وإبقاء الأهل والولد في الضر والمحنة.
وعن جابر: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس أتاه صبي فقال: إن أمي تستكسيك درعا فقال صلى الله عليه وسلم: من ساعة إلى ساعة يظهر فعد إلينا. فذهب إلى أمه فقالت له:
قل إن أمي تستكسيك الدرع الذي عليك. فدخل داره ونزع قميصه وأعطاه وقعد عريانا وأذن بلال وانتظروا فلم يخرج للصلاة فنزلت الآية.
وقيل: أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وعيينة بن حصن فجاء عباس بن مرداس وأنشأ يقول: أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع. وما كان حصن ولا حابس، يفوقان مرادس في مجمع وما كنت دون امرئ منهما، ومن تضع اليوم لا يرفع. فقال صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر اقطع لسانه عني أعطه مائة من الإبل فنزلت.
ثم إنه تعالى سلى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن الذي يرهقه من الإضافة ليس لهوان منه على الله ولا لبخل به عليه ولكنه تابع لمشيئة الخالق الرازق فقال: إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أي يضيق إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ وبمصالحهم خَبِيراً بَصِيراً فالتفاوت في الأرزاق ليس لأجل البخل ولكن لرعاية الصلاح. ويمكن أن يكون مراد الآية أن البسط الكلي والقبض الكلي من شأن الرب الخبير والبصير وليس للعباد الاقتصاد.
ويحتمل أن يراد أنه تعالى مع غاية قدرته وسعة جوده يراعي أوسط الحالين. فلا يبلغ بالمبسوط له غاية مراده ولا بالمقبوض عليه أقصى مكروهه، فاستنوا بسنته وتخلقوا بأخلاقه. وفي الآية دلالة على أنه هو المتكفل بأرزاق العباد فلذلك قال بعده: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ وأيضا لما علم كيفية البر بالوالدين أراد أن يعلم كيفية البر بالأولاد، فبر الآباء مكافأة وبر الأبناء ابتداء اصطناع. وفيه نظام العالم وبقاء النوع الإنساني لأن قتل الأولاد إن كان لخوف الفقر فهو لسوء الظن بالله، وإن كان لأجل الغيرة على