والدنيا؟ وإن الكلب المعلم يكون صيده ماهرا ببركة العلم مع أنه نجس في الأصل، فالنفس الطاهرة في الفطرة إذا تلوثت بأوزار المعصية، كيف لا تطهر ببركة العلم بالله وبصفاته؟ وإذا كان السارق عالما لا تقطع يده لأنه يقول: كان المال وديعة لي، وكذا الشارب يقول: حسبته حلالا، وكذا الزاني يقول: تزوجتها فإنه لا يحد. وأما الحكايات، (يحكى) أن هارون الرشيد كان بحضرته فقهاء فيهم أبو يوسف فأتي برجل فادعى عليه آخر أنه أخذ من بيتي مالا بالليل، ثم أقر الآخذ بذلك في المجلس، فاتفق العلماء على أنه تقطع يده، فقال أبو يوسف: لا قطع عليه لأنه أقر بالأخذ، وإنه لا يوجب القطع بل لا بد من الاعتراف بالسرقة فصدقه الكل في ذلك ثم قالوا للآخذ: أسرقتها؟ فقال: نعم. فأجمعوا على القطع لأنه أقر بالسرقة. فقال أبو يوسف: لا قطع عليه لأنه وإن أقر بالسرقة، لكن بعد ما أوجب الضمان عليه بإقراره بالأخذ، وإذا أقر بالسرقة بعد ذلك فهو بهذا الإقرار يسقط الضمان عن نفسه فلا يسمع إقراره فتعجب الكل.
(وعن الشعبي) كنت عند الحجاج فأتي بيحيى بن يعمر- فقيه خراسان- من بلخ مكبلا في الحديد. فقال الحجاج: أنت زعمت أن الحسن والحسين من ذرية الرسول؟ فقال: بلى.
فقال الحجاج: لتأتيني ببينة واضحة من كتاب الله أو لأقطعنك عضوا عضوا. فقال: آتيك ببينة واضحة من كتاب الله يا حجاج؟ قال: فتعجب من جرأته بقوله يا حجاج فقال له:
ولا تأتيني بهذه الآية نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ [آل عمران: ٦١] فقال: آتيك بها واضحة من كتاب الله. قال تعالى: وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ إلى قوله وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى [الأنعام: ٨٤] فمن أبو عيسى فقد ألحق تعالى عيسى بذرية نوح قال:
فأطرق مليا ثم رفع رأسه فقال: كأني لم أقرأ هذه الآية من كتاب الله، حلوا وثاقه وأعطوه من المال كذا. (ويحكى) أن جماعة من أهل المدينة جاءوا إلى أبي حنيفة ليناظروه في القراءة خلف الإمام ويبكتوه ويسفهوا عليه، فقال لهم: لا يمكنني مناظرة الجميع ففوضوا أمر المناظرة إلى أعلمكم لأناظره، فأشاروا إلى واحد فقال: هذا أعلمكم؟ قالوا: نعم.
قال: والمناظرة معه كالمناظرة معكم؟ قالوا: نعم. قال: والإلزام عليه كالإلزام عليكم؟
قالوا: نعم. قال: وإن ناظرته وألزمته الحجة فقد ألزمتكم الحجة؟ قالوا: نعم. قال: وكيف قالوا لأنا رضينا به إماما فكان قوله قولا لنا، قال أبو حنيفة فنحن لما اخترنا الإمام في الصلاة فقراءته قراءة لنا وهو ينوب عنا فأقروا له بالعلم. ويحكى أن المنصور دعا أبا حنيفة يوما فقال الربيع وهو يعاديه: يا أمير المؤمنين، هذا يخالف جدك حيث يقول الاستثناء المنفصل جائز وأبو حنيفة ينكره، فقال أبو حنيفة: هذا الربيع يقول ليس لك بيعة في رقبة الناس. فقال: كيف قال إنهم يعقدون البيعة لك ثم يرجعون إلى منازلهم فيستثنون فتبطل