للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم أجمل ذكر النعمة بقوله: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وقد ذكر المفسرون في تكريمه وجوها منها: الخط فيه يقدر الإنسان على إيداع العلوم التي استنبطها- هو أو غيره- الدفاتر فتبقى على وجه الدهر مصونة عن الاندراس محفوظة عن الانطماس اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ [العلق: ٣، ٤] ومنها الصورة الحسنة وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ [غافر: ٦٤] ، ومنها القامة المعتدلة لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين: ٤] ومنها أن كل شيء يأكل بقية إلا ابن آدم. يحكى عن الرشيد أنه حضر لديه طعام فأحضرت الملاعق- وعنده أبو يوسف- فقال له: جاء في تفسير جدك ابن عباس أن هذا التكريم هو أنه جعل لهم أصابع يأكلون بها فرد الملاعق وأكل بأصابعه. ومنها ما قال الضحاك: إنه النطق والتمييز فإن الإنسان يمكنه تعريف غيره كل ما عرفه بخلاف سائر الحيوان، ويدخل الأخرس في هذا الوصف لأنه يعرف بالإشارة أو الكتابة، ويخرج الببغاء ونحوه لأنه لا يقدر على تعريف جميع الأحوال على الكمال. ومنها تسليطهم على ما في الأرض وتسخيره لهم، فالأرض لهم كالأم الحاضنة مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ [طه:

٥٥] وهي لهم فراش ومهاد، والماء ينتفعون به في الشرب والزراعة والعمارة وماء البحر ينتفع به في التجارة واستخراج الحلي منه، والهواء مادة الحياة ولولا هبوب الرياح لاستولى النتن على المعمورة، والنار ينتفع بها في الطبخ والإنضاج ودفع البرد وغير ذلك، وانتفاعهم بالمركبات المعدنية والنباتية والحيوانية ظاهر. وبالجملة فهذا العالم بأسره كقرية معمورة أو خوان معد، والإنسان فيه كالرئيس المخدوم والملك المطاع، فأي تكريم يكون أزيد من هذا؟ ولا شك أن الإنسان- لكونه مستجمعا للقوة العقلية القدسية وللقوتين الشهوية البهيمية والغضبية السبعية ولقوّتي الحس والحركة الإرادية وللقوى النباتية وهي الاغتذاء والنموّ والتوليد- يكون أشرف مما لم يستجمع الجميع سوى المجردات المحضة.

وقال بعضهم: إن هذا التكريم هو أنه تعالى خلق آدم بيده وأبدع غيره بواسطة «كن» .

يروى عن زيد بن أسلم أن الملائكة قالت: ربنا إنك أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون منها ويتمتعون ولم تعطنا ذلك فأعطنا في الآخرة. فقال: وعزتي وجلالي لا أجعل ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له «كن» فكان.

ثم خص بعض أنواع التكريم بالذكر فقال: وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قال ابن عباس: في البر أي على الخيل والبغال والحمير وفي البحر أي على السفن وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ من كل غذاء نباتي أو حيواني ألطفه وألذه. واعلم أن التكريم لا يدل على التفضيل لأن تكريم زيد لا ينافي تكريم غيره بأزيد من ذلك ولذلك ختم التكريم بقوله:

<<  <  ج: ص:  >  >>