للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المقرّبين بل إلى جناب رب العالمين، ولما كان قبول القابل شرطا في ظهور الأثر من الفاعل فلا جرم لا يَزِيدُ القرآن الظَّالِمِينَ الذي وضعوا التكذيب مقام التصديق والشك موضع الإيقان والاطمئنان إِلَّا خَساراً لأن البدن غير النقي كلما غذوته زدته شرا فلا يزال سماع القرآن يزيد المشركين غيظا وحنقا ويدعوهم ذلك إلى زيادة ارتكاب الأعمال القبيحة وهلم جرا إلى أن يدفع الله مكرهم ونكرهم.

ثم ذكر قبح شيمة الإنسان الذي جبل عليه فقال: وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أي على هذا الجنس بالصحة والغنى. وعن ابن عباس أنه الوليد بن المغيرة. وفي التخصيص نظر إلا أن يكون سبب النزول أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ النأي البعد، والباء للتعدية أو للمصاحبة وهو تأكيد للإعراض، لأن الإعراض عن الشيء هو أن يوليه عرض وجهه أي ناحيته. والنأي بالجانب أن يلوي عن عطفه ويوليه ظهره، أو أراد الاستكبار لأن هذا الفعل من شأن المستكبرين. ومن قرأ ناء فإما من النوء بمعنى النهوض مستثقلا، وإما مقلوب كقولهم «راء» في رأى. وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ من مرض أو فقر كانَ يَؤُساً شديد اليأس من روح الله. والحاصل أنه إن فاز بالمطلوب الدنيوي وظفر بالمقصود الدني نسي المنعم الحقيقي، وإن فاته شيء من ذلك استولى عليه الأسف حتى كاد يتلف أو يدنف، وكلتا الخصلتين مذمومة ولا مقتضى لهما إلا العجز والطيش وكل بقدر كما قال: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ أي كل واحد من الخلائق إنما يتيسر له أن يعمل على سيرته وطريقته التي تشاكل حاله التي جبل عليها من قولهم «طريق ذو شواكل» وهي الطرق التي تتشعب منه.

فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا لأنه الذي خلق كل شيء ورباه وهو عالم بخاصية كل نفس وبمقتضى جوهرها المشرق، أو المظلم سواء قلنا إن النفوس مختلفة بالماهيات، أو هي متساوية الحقائق واختلاف أحوالها لاختلاف أمزجة أبدانها، كما أن الشمس تعقد الملح وتلين الدهن وتبيض ثوب القصار وتسود وجهه.

ولما انجر الكلام إلى ذكر الإنسان وما جبل هو عليه لزم البحث عن ماهية الروح فلذلك قال: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ذكر المفسرون في سبب نزوله أن اليهود قالوا لقريش: سلوا محمدا عن ثلاث: عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح. فإن أجاب عن الأولين وأبهم الثالثة فهو نبي لأن ذكر الروح مبهم في التوراة، وإن أجاب عن الكل أو سكت فليس بنبي. فبين لهم القصتين وأبهم أمر الروح إذ قال: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي أي مما استأثر الله بعلمه فندموا على سؤالهم. ومن الناس من طعن في هذه الرواية لوجوه منها: أن الروح ليس أعلى شأنا من الله تعالى، وإذا كانت معرفة الله تعالى

<<  <  ج: ص:  >  >>