واحد بقوله:«أنا واحد» بالبديهة، ولأن الغضب مثلا حالة نفسانية تحدث عند محاولة دفع المنافي مشروطا بالشعور بكون الشيء منافيا. فالذي يغضب لا بد أن يكون هو بعينه مدركا، ولأن اشتغال الإنسان بالغضب وانصبابه إليه يمنعه من الاشتغال بالشهوة والانصباب إليها، فعلمنا أنهما صفتان مختلفتان لجوهر واحد إذ لو كان لكل منهما مبدأ مستقل لم يكن اشتغال أحدهما بفعله مانعا للآخر، وأيضا شيئا فقد يكون الإدراك سببا لحصول الشهوة، وقد يكون سببا للغضب، فعلمنا أن صاحب الإدراك بعينه هو صاحب الشهوة والغضب. وأيضا النفس لا يمكنها أن تتحرك بالإرادة إلا عند حصول الداعي ولا معنى للداعي إلا الشعور بخير يرغب في جذبه أو بشر يرغب في دفعه، وهذا يقتضي أن المتحرك بالإرادة هو بعينه المدرك للخير والشر واللذيذ والمؤذي والنافع والضار، وهو المبصر والسامع والشام والذائق واللامس والمتخيّل والمتفكر والمشتهي والغاضب بوساطة آلات مختلفة وقوى متغايرة. وإذا ثبت ذلك فلو كانت النفس عبارة عن جملة البدن كان للكل أثر واحد، ولو كانت جزءا من أجزاء البدن كانت قوة سارية في جميع أجزاء البدن، والوجود بخلاف الكل فحصل اليقين بأن النفس شيء مغاير لكل البدن ولكل جزء من أجزائه. ومنها أن الاستقراء يدل على أحوال النفس بالضد من أحوال الجسد لأن الجسم إذا قبل شكل التثليث مثلا امتنع أن يقبل حينئذ شكل التربيع ولا كذلك حال النفس، فإن إدراك كل صورة يعينها على إدراك ما عداها ولذلك يزداد الإنسان فهما وذكاء بازدياد العلوم. وأيضا كثرة الأفكار توجب قوة للنفس وتستدعي استيلاء النفس على الدماغ وقد تصير أبدان أرباب الرياضة في غاية النحافة والهزال وتقوى نفوسهم بحيث لا يلتفتون إلى السلاطين وأصحاب الشوكة والقوة، ومما يختص بهذه الآية التي نحن في تفسيرها أن الروح لو كان جسما منتقلا من حالة إلى حالة لكان مساويا للبدن في كونه متولدا من أجسام متغيرة من صفة إلى صفة، فحيث سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح كان الأنسب أن يقول: إنه جسم كان كذا ثم صار كذا وكذا كما ذكر في كيفية تولد البدن أنه كان نطفة ثم صار علقة ثم مضغة إلى آخره. والأحاديث الواردة في أن الأرواح مخلوقة قبل الأجساد تؤكد ذلك الرأي الذي ادعينا من أن النفس شيء مغاير للبدن ولأجزائه والله أعلم بحقائق الأمور.
قال أهل النظم: لما بين أنه ما أتاهم من العلم إلا القليل أراد أن يبين أنه لو شاء أن يأخذ منهم ذلك القليل لقدر عليه فقال: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قلت:
في نسبة علم القرآن إلى القلة خروج من الأدب فالأولى في وجه النظم أن يقال: إنه لما