كشف لهم الغطاء عن مسألة الروح، وبين أن ذلك من العلوم الإلهية التي لا نهاية لها لا من العلوم الإنسانية القليلة، وكان فيه بيان كمال علمه تعالى ونقصان علم الإنسان، أراد أن يبين غاية قدرته ونهاية ضعف الإنسان أيضا فبين أنه قادر على ذهاب القرآن ونحوه عن الصدور والمصاحف، وسيكون ذلك في آخر الزمان كما جاء في الروايات ثم لا يجد النبي- الذي هو أكمل أنواع الإنسان- من يتوكل عليه باسترداده فضلا عن غيره إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ استثناء متصل أي إلا أن يرحمك ربك فيرده عليك كأن رحمته تتوكل عليه بالرد، أو منقطع معناه ولكن رحمة من ربك تركته غير مذهوب به إِنَّ فَضْلَهُ بإيحاء القرآن إليك ثم إبقائه عليك أو بهذا وبسائر الخصائص والمزايا كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً وفيه أن نعمة القران وبقاءه محفوظا في الصدور مسطورا في الدفاتر من أجلّ النعم وأشرفها، فعلى كل ذي علم أن لا يغفل عن شكرها والقيام بمواجبها جعلنا الله ممن يراعي حق القرآن ويعمل بمقتضاه. واحتج الكعبي بالآية على أن القرآن مخلوق لأن ما يمكن إزالته والذهاب به يستحيل أن يكون قديما، وأجيب بأن إزالة العلم عن القلوب والذهاب بالنقوش الدالة عليه في المصاحف لا يوجب حدوث الكلام النفسي الذي هو محل النزاع. ثم دل على أن الذي أوحي إليه ليس من جنس كلام المخلوقين فقال: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ الآية. وقد مرّ وجه إعجاز القرآن في أوائل سورة البقرة. فإن قيل: هب أنه ظهر عجز الإنسان عن معارضته فكيف يعرف عجز الجن عن معارضته، ولم لا يجوز أن يقال: إن الجن أعانوه على هذا التأليف سعيا في إضلال الخلق؟ وإخبار محمد بأنه ليس من كلام الجن يوجب الدور وليس لأحد أن يقول: إن الجن ليسوا بفصحاء، فكيف يعقل أن يكون القرآن كلامهم لأنا نقول: التحدي مع الجن إنما يحسن لو كانوا فصحاء؟ فالجواب أن عجز البشر عن معارضته يكفي في إثبات كونه معجزا. ثم إن الصادق الذي ثبت صدقه بظهور المعجز على وفق دعواه أخبر أن الجن أيضا عاجزون عن الإتيان بمثل القرآن فسقط السؤال بالكلية. على أنه سبحانه قد أجاب عنه في آخر سورة الشعراء بقوله: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ [الشعراء: ٢٢١] وسوف يجيء تفسيره إن شاء الله تعالى. قالت المعتزلة: التحدي بالقديم محال. وأجيب بمثل ما مر أن محل النزاع هو الكلام النفسي لا الألفاظ التي يقع التحدي بها وبفصاحتها. ثم بين أنهم مع ظهور عجزهم بقوا مصرين على كفرهم فقال: وَلَقَدْ صَرَّفْنا رددنا وكررنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ «من كل» معنى هو كالمثل في غرابته وحسنه وذلك كدلائل التوحيد والنبوة والمعاد وكالقصص اللائقة وغيرها من المواعظ والنصائح. فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ فيه معنى النفي كأنه قيل: فلم يرضوا إِلَّا كُفُوراً وجحودا. قال أهل البرهان: إنما لم يذكر الناس في أوائل السورة