للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لتنزيل الرسول من جنس الملائكة أمرين: أحدهما كون سكان الأرض ملائكة، والثاني كونهم ماشين على الأقدام غير قادرين على الطيران بأجنحتهم إلى السماء، إذ لو كانوا قادرين على ذلك لطاروا أو سمعوا من أهلها ما يجب معرفته وسماعه فلا يكون في بعثة الملك إليهم فائدة. وجوز في الكشاف أن يكون قوله: بَشَراً ومَلَكاً منصوبين على الحال من رَسُولًا بل زعم أن المعنى له أجوب، ولعل ذلك لأن الإنكار توجه إلى كون الرسول متصفا بحالة البشرية لا الملكية، وإذا كان أحد الصنفين المتقابلين حالا لزم أن يكون الآخر كذلك.

ثم ختم الكلام بما يجري مجرى التهديد قائلا: قُلْ كَفى بِاللَّهِ الآية. وذلك أن إظهار المعجزة على وفق دعوى النبي شهادة من الله تعالى له على الصدق. فإذا لم تسمع هذه الشهادة وهو عليم ببواطن الأمور وخفيات الضمائر فكيف بظواهرها؟ علم أن هذا مجرد الحسد والعناد من العباد فيجزيهم على حسب ذلك. ثم بين أن الإقرار والإنكار مستندان إلى مشيئته وتقديره فقال: وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ الآية. وقد مر خلاف المتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة في مثله في آخر «الأعراف» وغيره. وقوه: فَهُوَ الْمُهْتَدِ حمل على اللفظ وقوله: فَلَنْ تَجِدَ حمل على المعنى. والخطاب في فَلَنْ تَجِدَ إما للنبي أو لكل من يستحق الخطاب. والأولياء الأنصار، والحشر على الوجوه إما بمعنى السحب عليها كقوله: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ [القمر: ٤٨] واما بمعنى المشي عليها كما

روي أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن ذلك فقال: «إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم» «١» .

وقيل لابن عباس: قد أخبر الله تعالى عنهم بأنهم يرون وينطقون ويسمعون حيث قال: رَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً سَمِعُوا لَها الجمع بين ذاك تغيظا وزفيرا فكيف وبين قوله: عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا؟ فأجاب بأنهم لا يرون ما يسرهم، ولا ينطقون بحجة تقبل منهم، ولا يسمعون ما يلذ مسامعهم. وفي رواية عطاء أنهم عمي عن النظر إلى ما جعله الله لأوليائه، بكم عن مخاطبة الله ومخاطبة الملائكة المقربين، صم عن ثناء الله على أوليائه، وقال مقاتل: هذه الأحوال بعد قوله تعالى لهم: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون: ١٠٨] أو بعد أن يحاسبوا فيذهب بهم إلى النار. وإنما جعلوا مؤوفي الحواس جزاء على ما كانوا عليه في الدنيا من التعامي والتصامم عن الحق ومن عدم النطق به كُلَّما خَبَتْ أي سكن لهبها.


(١) رواه البخاري في تفسيره سورة ٢٥ باب ١. مسلم في كتاب المنافقين حديث ٥٤. الترمذي في كتاب التفسير سورة ١٧ باب ١٢. أحمد في مسنده (٢/ ٣٥٤، ٣٦٣) .

<<  <  ج: ص:  >  >>