قال أهل البرهان: لما كان اتخاذ الحوت سبيله في البحر عقيب النسيان ذكر أوّلا فاتخذ بالفاء، ولما حيل بينهما ثانيا بجملة معترضة هي قوله: وَما أَنْسانِيهُ زال معنى التعقيب وبقي العطف المجرد فقال: وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ بالواو. وانتصاب عَجَباً كما مر في سَرَباً.
قال صلى الله عليه وسلم:«كان للحوت سربا ولموسى وفتاه عجبا»
قالَ موسى ذلِكَ يعني اتخاذ الحوت السبيل في البحر ما كنا نبغي أي إنه الذي كنا نطلبه لأنه أمارة الظفر بالمطلوب فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما فرجعا على طريقهما المسلوك قَصَصاً مصدر لأنه بمعنى الارتداد على الأثر يتبعان آثارهما اتباعا، أو هو مصدر في موضع الحال أي رجعا على الطريق الذي جاءا منه مقتصين فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا الأكثرون على أن ذلك العبد كان نبيا لأنه تعالى وصفه بقوله: آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا والرحمة هي الوحي والنبوّة بدليل قوله: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [الزخرف: ٣٢] وقوله: وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [القصص: ٨٦] ومنع أن كل رحمة نبوة قالوا: وصفه بقوله: وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً والعلم المختص به تعالى هو الوحي والإخبار بالغيوب. وأيضا آخر القصة وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي أي عرفته وفعلته بأمر الله وذلك مستلزم للوحي.
وروي أن موسى عليه السلام لما وصل إليه قال: السلام عليك. فقال: وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل. فقال: من عرّفك هذا؟ قال: الذي بعثك إلي.
والصوفية سموا العلوم الحاصلة بطريق المكاشفات العلوم اللدنية. والتحقيق فيه إذ ضعفت القوى الحسية والخيالية بواسطة الرياضة قويت القوة العقلية وأشرقت الأنوار الإلهية على جواهر العقل، ويفيض عليه من عالم الأرواح أنوار يستعد بسببها لملاحظة أسرار الملكوت ومطالعة عالم اللاهوت. والأكثرون أيضا على أن ذلك العبد هو الخضر سمي بذلك لأنه كان لا يقف موقفا إلا اخضر ذلك الموقف. وقال الجبائي: روي أن الخضر إنما بعث بعد موسى عليه السلام من بني إسرائيل. فإن صحت الرواية لم يكن ذلك العبد هو الخضر لأنه بعث بعده، وبتقدير كونه معاصرا له فإنه أظهر الترفع على موسى حين قال: وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً وأن موسى أظهر التواضع له حين قال وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً مع أنه كان مبعوثا إلى كافة بني إسرائيل، والأمة لا تكون أعلى حالا من النبي. وإن لم تكن الرواية صحيحة بأن الخضر لا يكون من بني إسرائيل لم يجز أن يكون الخضر أفضل من موسى عليه السلام لأنه تعالى قال لبني إسرائيل وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ [البقرة: ٤٧] وأجيب بأنه يجوز أن يكون غير النبي فوق النبي في علوم لا تتوقف نبوته عليها.