للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال العلماء: إن موسى راعى مع الخضر في قوله: هَلْ أَتَّبِعُكَ أنواعا من الأدب منها: أنه جعل نفسه تبعا له مطلقا، وفيه أن المتعلم يجب عليه الخدمة وتسليم النفس والإتيان بمثل أفعال الأستاذ وأقواله على جهة التبعية لا الاستقلال، فإن المتابعة هي الإتيان بمثل فعل الغير لأجل كونه فعلا لذلك الغير، ولهذا لسنا متبعين لليهود في قولنا «لا إله إلا الله» لأنا نقول كلمة التوحيد لأجل أنهم قالوها بل لقيام الدليل على قولها، ولكنا متابعون في الصلوات الخمس للنبي صلى الله عليه وسلم لأنا نأتي بها لأجل أنه أتى بها. ومنها أنه استأذن في إثبات هذه التبعية. ومنها أنه قال: على أن تعلمني مما علمت وفيه إقرار على أستاذه بالعلم، وفيه أنه لم يطلب منه إلا بعض علمه ولم يطلب منه أن يجعله مساويا له في العلم كما يطلب الفقير من الغني أن يدفع إليه جزءا من أجزاء ماله لأكله، وفيه اعتراف بأن ذلك العلم علمه الله تعالى وإلا سمي فاعله، وفيه إشعار بأن إنعامه عليه في هذا التعليم شبيه بإنعام الله عليه فيه ومن هنا قيل: أنا عبد من علمني حرفا. ومنها أن الخضر عرف أنه نبي صاحب المعجزات المشهورة، ثم إنه مع هذه المناصب العلية والمراتب السنية لم يطلب منه المال والجاه وإنما طلب التعليم فقال:

على أن تعلمني فدل ذلك على أنه لا كمال فوق كمال العلم، وأنه لا يحسن صرف الهمة إلا إلى تحصيله. وفيه أن كل من كانت إحاطته بالعلوم أكثر كان علمه بما فيها من البهجة والسعادة أكثر، فكان حرصه على زيادتها أوفر. ومنها أنه قال رُشْداً وهو يصلح أن يكون مفعولا ك تعلمني وعُلِّمْتَ أي علما ذا رشد أرشد به في ديني، وفيه تعظيم لما سيعلمه فإن الإرشاد هو الأمر الذي لو لم يحصل حصل الضلال. ثم إنه تعالى حكى عن الخضر أنه قال: لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً نفى استطاعة الصبر معه على وجه التأكيد لعلمه بأنه يتولى أمورا هي في الظاهر منكرة، والرجل الصالح لا سيما النبي الذي يحكم بظواهر الأمور شرعا قلما يتمالك أن يصبر عليها. وخُبْراً تمييز أي لم يحط به خبرك، أو هو مصدر لكونه في معنى الإحاطة. استدلت الأشاعرة بالآية على أن الاستطاعة لا تحصل فيه الفعل وإلا لكانت الاستطاعة على الصبر حاصلة قبل الصبر، فيكون قول الخضر بنفي الاستطاعة كذبا. وكذا قوله: وَكَيْفَ تَصْبِرُ لأنه استفهام في معنى الإنكار أي لا تصبر البتة. أجاب الجبائي بأنه أراد بنفي الاستطاعة أن يثقل عليه الصبر لا أنه لا يستطيعه. يقال في العرف: إن فلانا لا يستطيع أن يرى فلانا وأن يجالسه إذا كان يثقل عليه ذلك ولهذا قالَ له موسى سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي أي ستجدني غير عاص لَكَ أَمْراً ويجوز أن يكون قوله: وَلا أَعْصِي جملة مستأنفة معطوفة على مثلها أي ستجدني ولا أعصي. قال أهل السنة: في قوله: إِنْ شاءَ اللَّهُ بطريق الشك والصبر

<<  <  ج: ص:  >  >>