وهي نار الأشجار. فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إنما جمع لأن أهله جمع وهم المرأة والخادم والولد. ويجوز أن يخاطب المرأة وحدها ولكن أخرج الخطاب على ظاهر لفظ الأهل فإنه اسم جمع. وأيضا فقد يخاطب الواحد بلفظ الجماعة تفخيما أي أقيموا في مكانكم فقد آنَسْتُ ناراً أي أبصرت إبصارا لا شبهة فيه أو إبصارا يؤنس به. والتركيب يدل على الظهور، ومن ذلك إنسان العين لأنه يظهر الأشياء، ومنه الإنس لظهورهم كما قيل الجن لاستتارهم، ومنه الأنس ضد الوحشة لظهور المطلوب وهو المأنوس به. قال جار الله: لما وجد الإيناس وكان مقطوعا متيقنا حققه لهم بكلمة «إن» ليوطن أنفسهم. ولما كان الإتيان بالقبس ووجود الهدى مترقبين بنى الأمر فيهما على الرجاء دون الجزم قائلا لَعَلِّي آتِيكُمْ قال المحققون: فيه دلالة على أن إبراهيم عليه السلام لم يكذب البتة لأن موسى قبل نبوته احترز عن الكذب المظنون فلم يقل «إني آتيكم» لئلا يعد ما لم يستيقن الوفاء به، فإبراهيم وهو أبو الأنبياء أولى بالاحتراز من الكذب الصريح. والقبس النار المقتبسة في رأس عود أو فتيلة ونحوهما. وهُدىً على حذف المضاف أي ذوي هدى، أو إذا وجد الهداة فقد وجد الهدى. والظاهر أنه أراد قوما يهدونني الطريق. وعن مجاهد وقتادة: قوما ينفعونني بهداهم في أبواب الدين، وذلك أن همم الأبرار معقودة في جميع أحوالهم بالأمور الدينية لا يشغلهم عنها شاغل. ومعنى الاستعلاء في على النار وهو مفعول ثان لأجد، أو حال من ذوي هدى أن أهل النار يشغلون المكان القريب منها أو المصطلون بها كفنوها قياما وقعودا فهم مشرفون عليها وإن كان المكانان مستويين.
فَلَمَّا أَتاها أي أتى النار. قال ابن عباس رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها كأنها نار بيضاء تتقد، وسمع تسبيح الملائكة ورأى نورا عظيما فخاف وبهت فألقيت عليه السكينة، ثم نودي وكانت الشجرة عوسجة. وقال وهب: ظن موسى أنها أوقدت فأخذ من دقاق الحطب ليقتبس من لهبها فمالت إليه كأنها تريده فتأخر عنها وهابها، ثم لم يزل تطمعه ويطمع فيها، ثم لم يكن أسرع من خمودها فكأنها لم تكن، ثم رمى موسى بنظره إلى فرعها فإذا خضرته ساطعة في السماء، وإذا نور بين السماء والأرض له شعاع تكل عنه الأبصار، فلما رأى موسى ذلك وضع يده على عينيه فنودي يا مُوسى من قرأ إِنِّي بالفتح فتقديره نودي بأني، ومن قرأ بالكسر فلأن النداء في معنى القول، أو لأن التقدير نودي فقيل يا موسى. وتكرير الضمير في «أنيّ» أَنَا رَبُّكَ لتوكيد الدلالة وتحقيق المعرفة وإماطة الشبهة.
روي أنه لما نودي يا موسى قال: من المتكلم؟ فقال الله عز وجلّ:
إني أنا ربك. فوسوس إليه إبليس لعلك تسمع كلام شيطان. فقال: أنا عرفت أنه كلام الله بأني أسمعه من جميع جهاتي الست وأسمعه بجميع أعضائي حتى كأن كل جارحة مني صارت