ربيتك من غير سابقة حق فلو منعتك الحال مطلوبك لكان ذلك ردا بعد القبول وحرمانا بعد الإحسان وذلك ينافي الكرم الذاتي. قالوا: المنة تهدم الصنيعة فهي نوع من الأذى.
فقوله وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ يكون من المن لا من المنة، قلت: يحتمل أن لا تكون المنة من المنعم المطلق أذية وإنما تكون تنبها على النعم وإيقاظا من سنة الغفلة حتى يتلقى المكاف النعمة بالشكر والطاعة. وإنما قال مَرَّةً أُخْرى لأن الجملة قصة واحدة وإن كانت مشتملة على من كثيرة، والوحى إلى أم موسى إما أن يكون على لسان نبي في عصرها كشعيب مثلا، أو عن لسان ملك لا على طريق النبوّة كالوحي إلى مريم في قوله وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ [آل عمران: ٤٢] أو أراها في المنام أنه وضع ولدها في التابوت وقذف في البحر ثم رده الله إليها، أو ألهمها بذلك، أو لعل الأنبياء المتقدمين كإبراهيم وإسحق ويعقوب أخبروا بذلك وانتهى خبرهم إليها. ومعنى ما يُوحى ما يجب أن يوحى لما فيه من المصلحة الدينية ولأنه أمر عظيم ولأنه مما لا يعلم إلا بطريق الوحي.
«وأن» هي المفسرة لأن الإيحاء في معنى القول، والقذف يستعمل بمعنى الوضع أي ضعيه في التابوت وقد مر معناه في «البقرة» في قصة طالوت. قال جار الله: الضميران الباقيان في قوله فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ عائدان إلى موسى أيضا لئلا يؤدي إلى تنافر النظم، فإن المقذوف والملقى إذا كان موسى وهو في جوف التابوت لزم أن يكون التابوت أيضا مقذوفا وملقى ويؤيده أن الضمير في قوله عَدُوٌّ لَهُ لموسى بالضرورة لأن عداوة التابوت غير معقولة. وإذا كان الضمير الأول والضمير الأخير لموسى فالأنسب بإعجاز القرآن أن يكون الضمير المتوسط أيضا له، لأن المعنى صحيح واللفظ متناسب فلا حاجة الى العدول اعتمادا على القرينة. واليم هو البحر، والمراد هاهنا نيل مصر والساحل شاطىء البحر. وأصل السحل القشر ولهذا قال ابن دريد: هو مقلوب لأن الماء سحله فهو مسحول. قال أهل الإشارة: من خصوصية انشراح الصدر بنور الوحي أن يقذف في قلبه قذف الولد الذي هو أعز الأشياء في تابوت التوكل وبحر التسليم حتى يلقيه اليم بساحل إرادة الله ومشيئته. يروى أنها جعلت في التابوت قطنا محلوجا فوضعته فيه وجصصته وقيرته ثم ألقته في اليم، وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر كبير فبينا هو جالس على رأس بركة مع آسية إذا بالتابوت فأمر به فأخرج ففتح فإذا صبي أصبح الناس وجها فأحبه عدوّ الله حبا شديدا لا يتمالك أن يصبر عنه. وظاهر اللفظ يدل على أن التابوت التقط من الساحل، فلعل اليم ألقاه بموضع من الساحل فيه فوهة نهر فرعون فأداه النهر إلى البركة.
أما كون فرعون عدوا لله من جهة كفره وعتوه فظاهر، وأما كونه عدوّا لموسى وهو صغير