آثار الشيطان وسلوك مسالكه والاقتداء به في الإصغاء إلى الإفك وإشاعة الفحشاء وارتكاب ما تنكره العقول وتأباه. وقوله فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ من وضع السبب مقام المسبب والمراد ضل. قالت الأشاعرة: في قوله ما زَكى بالتشديد والضمير لله وكذا في قوله وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي دلالة على أن الزكاء وهو الطهارة من دنس الآثام لا يحصل إلا بالله، وهو دليل على أنه خالق الأفعال والآثار. وحمله المعتزلة على منح الألطاف أو على الحكم بالطهارة، وضعف بأنه خلاف الظاهر وبأنه يجب انتهاء الكل إليه، وبأن قوله مَنْ يَشاءُ ينافي قولكم إن خلق الألطاف واجب عليه.
ثم علم أدبا آخر جميلا بقوله وَلا يَأْتَلِ وهو افتعل من الألية أي لا يحلف على عدم الإحسان، وحرف النفي يحذف من جواب القسم كثيرا فهي كقراءة من قرأ ولا يتأل وقيل: هو من قولهم «ما ألوت جهدا» إذا لم يدخر من الاجتهاد شيئا أي لا يقصر في الإحسان إلى المستحقين.
قالوا: نزلت في شأن مسطح وكان ابن خالة أبي بكر الصديق فقيرا من فقراء المهاجرين، وكان أبوبكر ينفق عليه. فلما فرط منه ما فرط آلى أن لا ينفق عليه فنزلت فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي بكر، فلما وصل إلى قوله أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ قال أبو بكر: بلى أحب أن يغفر الله لي فعفا عن مسطح ورجع إلى الإنفاق عليه وقال: والله لا أنزعها أبدا.
قال الإمام فخر الدين الرازي: هذه الآية تدل على أفضلية أبي بكر الصديق من وجوه، وذلك أن الفضل المذكور في الآية لا يراد به السعة في المال والإلزام التكرار فهو الفضل في الدين ولكنه مطلق غير مقيد فثبت له الفضل على الإطلاق. تركنا العمل به في حق النبي صلى الله عليه وسلم بالاتفاق فيبقى في الغير معمولا به. وأيضا ذكره الله تعالى في الآية بلفظ الجمع وإنه مشعر بالتعظيم. وأيضا قد قيل:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ... على المرء من وقع الحسام المهند
فهذا الظلم من مسطح كان في غاية العظم وقد أمره الله تعالى بالصفح عنه، وامتثل هو فكان فيه نهاية جهاد النفس فيكون ثوابه على حسب ذلك. وأيضا في تسميته أولى الفضل والسعة شرف تام فكأنه قيل له: أنت أفضل من أن تقابل إنسانا بسوء وأنت أوسع قلبا من أن تقيم للدنيا وزنا فلا يليق بفضلك وسعة قلبك أن يقطع برك عمن أساء إليك. وأيضا أمره الله تعالى بالعفو والصفح وقال لنبيه فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ [المائدة: ١٣] فهو من هذه الجهة ثاني اثنين له في الأخلاق. وأيضا علق المغفرة بالعفو وقد حصل العفو فتحصل المغفرة البتة في الحال وفي الاستقبال لقوله أَنْ يَغْفِرَ فهو للاستقبال فيكون كما قال لنبيه لِيَغْفِرَ لَكَ