هو السبب في حصوله عنده وفي تربيته فلهذا قال الزجاج:«أن» مع ما بعده في موضع نصب أي إنما صارت نعمة عليّ لأن عبدت بني إسرائيل إذ لو لم تفعل ذلك لكفلني أهلي ولم يلقوني في اليم ومن هنا قال جار الله: إن قول موسى فعلتها إذن جواب لقول فرعون وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ وجزاء له كأن فرعون قال: جازيت نعمتي بما فعلت. فقال موسى:
فعلتها مجازيا لك وإن نعمتك جديرة بأن تجازى بنحو ذلك الجزاء. وقال الحسن: أراد أنك استعبدتهم وأخذت أموالهم ومنها أنفقت عليّ فلا نعمة لك بالتربية على أن التربية كانت من قبل أمي وعشيرتي ولم يكن منك إلا أنك لم تقتلني. وقيل: أراد أنك كنت تدعي أن بني إسرائيل عبيدك ولا منة للمولى على العبد في الإطعام والكسوة.
واعلم أن للعلماء خلافا في نعمة الكافر فقيل: إنها لا تستحق الشكر لأن الكافر يستحق الإهانة بكفره فلو استحق الشكر لإنعامه لزم الجمع بين الإهانة والتعظيم في حق شخص واحد في وقت واحد. وقيل: لا يبطل بالكفر إلا الثواب والمدح الذي يستحقه على الإيمان، وفي الآية نوع دلالة على كل من القولين. ثم إن موسى حين أدى رسالته من قوله نَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ وقد سبق مرارا أن كفره احتمل أن يكون كفر عناد وأن يكون كفر جهالة، والذي يختص بالمقام هو أن ما يطلب به حقيقة الشيء وماهيته، وهذا هو الذي قصده فرعون بسؤاله ولم يعرف أن الماهية لا تطلق على ذاته تعالى إذ لا أجزاء لها حدية ولا تقديرية ولا بأي وجه فرض ضرورة انتهاء الكل إليه واستغنائه عن الكل من كل الوجوه، فلا يصح أن يسأل عنه بما هو ولا بكيف هو ولا بأي شيء هو ولا بهل هو، غاية ذلك أن ينبه على وجوده الذي هو أظهر الأشياء بلوازمه وآثاره على وجه يعم الكل كما يقال: إنه رب السموات والأرض وما بينهما، أو بأخص من ذلك بأن يقال مثلا: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ وهو الاستدلال بالأنفس أو يقال رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما من الجهات المفروضة على السماء من لدن طلوع الكواكب إلى غروبها وبالعكس وهو الاستدلال بالآفاق. وقد راعى في الجواب الأول طريقة اللطف فختم بقوله إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أي إن كنتم موقنين بشيء قط فهذا أولى ما توقنون به لظهوره وجلائه. وخاشنهم في الأخير بقوله إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ حين نسبوه إلى الجنون بعد أن تهكموا به بقوله: إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ حين نسبوه إلى الجنون بعد أن تهكموا به بقوله إِنَّ رَسُولَكُمُ ويمكن أن يراد بقوله وَما بَيْنَهُما ثانيا ما بين المشرق والمغرب من المخلوقات فيكون الفرق بين هذا الاستدلال وبين الأول أن الأول هو الاستدلال بالإمكان على طريقة الحكيم، والثاني هو الاستدلال بالحدوث على طريقة المتكلمين، والأول أقرب إلى اليقين