قال وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ وإنما لم يقل هاهنا وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ [البقرة:
١٠٧] لأن الله لا ينصر الكفار من أهل النار. وإنما جمع هاهنا لأنه أراد في الأول جنس النصير وهاهنا أراد نفي الناصرين الذين كان أهل الشرك يزعمون أنهم شفعاؤهم عند الله فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وكان ابن أخي إبراهيم صدقه حين رأى النار لم تحرقه. قالت العلماء: إن لوطا آمن برسالة إبراهيم حين رأى المعجزة. وأما بالوحدانية فآمن حين سمع مقالته إذ لو توقف في الإيمان إلى وقت إظهار المعجزة كان نقصا في مرتبته وقدحا في نور باطنه، ألا ترى أن أبا بكر وعليا أسلما كما عرض النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام عليهما. وَقالَ إبراهيم إِنِّي مُهاجِرٌ من كوثى وهي من سواد الكوفة إلى حران ثم منها إلى فلسطين ولهذا قالوا: لكل نبي هجرة ولإبراهيم هجرتان. وكان معه في هجرته امرأته سارة وهاجر وهو ابن خمس وسبعين سنة وهاجر معه لوط أيضا. ومعنى إِلى رَبِّي أي إلى حيث أمر ربي بالهجرة إليه ومثله قوله إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي [الصافات: ٩٩] وعبارة القرآن أدخل في الإخلاص لأن المهاجر إلى حيث أمره الملك قد يهاجر إليه مرة أخرى لغرض نفسه فيصدق أنه مهاجر إلى حيث أمره الملك ولا يصدق أنه مهاجر لأجل الملك ولرضاه. وفي قوله إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ نوع تهديد لقومه وتصويب لما بدا له من الهجرة بأمر الله. قال في الكشاف: إنه هو العزيز الذي يمنعني من أعدائي، الحكيم الذي لا يأمرني إلا بما هو مصلحتي.
ثم ذكر ما أنعم به عليه من الأولاد والأحفاد، ومن جعل النبوة وجنس الكتاب الإلهي فيهم. وهو التوراة والإنجيل والزبور والفرقان- ولهذا اندرج ذكر إسماعيل في الآية. ولعل السر في عدم ذكر إسماعيل والتصريح بذكره أن الله تعالى جعل الزمان بعد إبراهيم قسمين:
أحدهما زمن إسحاق ويعقوب وذراريهما إلى زمان الفترة، والآخر من محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم قيام الساعة وهو من ولد إسماعيل فطي ذكر إسماعيل إشارة إلى تأخر زمان دولته والله أعلم. ثم كرر ذكر النعمة بقوله وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا قال أهل التحقيق: إن الله تعالى بدل جميع أحوال إبراهيم عليه السلام بأضدادها. لما أراد القوم تعذيبه بالنار فجعلها الله عليه بردا وسلاما، وهاجر فريدا وحيدا فوهب الله له ذريّة طيبة مباركة كما وصفنا، وكان لا مال له فكثر ماله حتى حصل له من المواشي ما علم الله عدده فقط.
يروى أنه كان له اثنا عشر ألف كلب حارس في أعناقها أطواق من ذهب.
وكان خاملا حتى قال قائلهم سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ [الأنبياء: ٦٠] فجعل الله له لسان صدق في الآخرين. اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم. ثم بين بقوله وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ أن تلك النعمة الدنيوية ولذاتها مقرونة بفلاح الآخرة وصلاحها