ثم كرر قوله يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ تعجبا منهم وتعجيبا، فإن من توعد بأمر يسير كلطمة أو لكمة يحتمل أن يظهر من نفسه الجلادة ويقول: هات ما عندك. وأما الذي توعد بإحراق ونحوه فكيف يتجلد ويستعجل خصوصا إذا كان الموعد لا يخلف الميعاد ويقدر على كل ما أراد. وقوله لَمُحِيطَةٌ بمعنى الاستقبال أي ستحيط بهم يوم كذا ويجوز أن يكون بمعنى الحال حقيقة لأن المعاصي التي توجبها محيطة بهم في الدنيا، أو مجازا لأن جهنم مآلهم ومرجعهم فكأنها الساعة محيطة بهم. والظرف على هذين الوجهين منصوب بمضمر أي يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ كان كيت وكيت. وإنما خص الغشيان بالفوق والتحت دون باقي الجهات، لأن نار جهنم بذلك تتميز عن نار الدنيا لأن نار الدنيا، لا تنزل من فوق ولا تؤثر شعلتها من تحت بل تنطفئ الشعلة تحت القدم، وإنما لم يقل «ومن تحتهم» كما قال مِنْ فَوْقِهِمْ لأن نزول النار من فوق عجيب سواء كان من سمت الرأس أو من موضع آخر. وأما الاشتعال من تحت فليس بعجيب إلا حيث يحاذي الرجل. ويجوز أن يكون زيادة الأرجل تصويرا لوقوفهم في النار أو لجثوهم فيها. وقوله ذُوقُوا ما كُنْتُمْ أي جزاء ما كنتم تعملونه أمر إهانة، وحين ذكر حال الكفرة من أهل الكتاب والمشركين وجمعهم في الإنذار وجعلهم من أهل النار اشتد عنادهم وزاد فسادهم وسعوا في إيذاء المؤمنين ومنعهم من عبادة الله فقال يا عِبادِيَ
فإن كانت الإضافة للتشريف كقوله عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ [الدهر: ٦] فقوله الَّذِينَ آمَنُوا
صفة موضحة. وإن كانت للتخصيص فهي صفة مميزة.
ومعنى الآية أن المؤمن إذا لم يتسهل له عبادة الله في بلد على وجه الإخلاص فليهاجر عنه إلى بلد يكون فيه أفرغ بالا أو أرفع حالا وأقل عوارض نفسانية وأكمل دواعي روحانية
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجب الجنة وكان رفيق إبراهيم ومحمد» .
واعلم أني عند الوصول إلى تفسير هذه السورة عنّ لي سفر من غير اختيار كلي فأقول متضرعا إلى الله الكريم ومستمدا من إعجاز الفرقان العظيم: اللهم إن كنت تعلم أن هذا السفر مشوب بشيء من رضاك فإن كل الرضا لا يمكنني أن أراعيه فاجعله سببا لنجح المقاصد وحصول المآرب والاشتمال على الفوائد الدنيوية والدينية والخلاص من شماتة الأعداء الدنية حتى أفرع لنشر العلوم الشرعية إنك على ما تشاء قدير وبالإسعاف والإجابة جدير. والفاء في قوله فَإِيَّايَ
للدلالة على أنه جواب الشرط كأنه.
قال: إذا كان لا مانع من عبادتي فاعبدوني ثم أريد معنى الاختصاص والإخلاص فقدم المفعول على شريطة التفسير، وجيء بالفاء الثانية الدالة على ترتيب المقتضى على المقتضي كما يقال: هذا عالم فأكرموه كما مر في قوله وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة: ٤٠] فصار حاصل المعنى: