إن لم تخلصوا العبادة لي في أرض فاخلصوها لي في غيرها. والفائدة في الأمر بالعبادة بعد قوله يا عِبادِيَ
الدال على العبودية إما المداومة أي يا من عبدتموني في الماضي اعبدوني في المستقبل، أو الإخلاص في العبادة. ويجوز أن يقال: العبودية غير العبادة، فكم من عبد لا يطيع سيده، ثم لما أمر المؤمنين بالمهاجرة صعب عليهم ترك الأوطان ومفارقة الإخوان والخلان فقال كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ أي إن الذي تكرهون لا بد من وقوعه فالأولى أن يكون ذلك في سبيل الله ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ فنثيبكم على ذلك، وفيه أن كل نفس ذائقة الموت اضطرارا فمن أراد أن لا يموت أبدا فليمت اختيارا فإن أولياء الله لا يموتون ولكن ينقلون من دار إلى دار. ثم بين أن للمؤمنين الجنان في مقابلة ما للكافرين من النيران، وأن في الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار في مقابلة ما يحيط بالكافرين من النار. وبين أن ذلك أجر عملهم بقوله نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ بإزاء ما بين جزاء عمل الكفار بقوله ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وقوله لَنُبَوِّئَنَّهُمْ ألننزلنهم مِنَ الْجَنَّةِ عوالي ومن قرأ بالثاء المثلثة فمن الثواء يقال: ثوى في المنزل لازما وأثوى غيره متعديا إلى واحد. فانتصاب غُرَفاً إما بنزع الخافض، وإما لتضمين الإثواء معنى التبوئة والإنزال، وإما التشبيه الظرف المؤقت بالمبهم. ثم مدح الَّذِينَ صَبَرُوا على المكاره في الحال. وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ فيما يحتاجون إليه في الاستقبال. وكل واحد من الصبر والتوكل يحتاج إليه المسافر والمقيم، فكما أن المهاجر يصبر على فراق الأوطان ويتوكل في سفره على الرحمن، فالمتوطن يصبر على الأذيات والمحن ويتوكل في أموره على فضل ذي المنن. والصبر والتوكل صفتان لا تحصلان إلا مع سعة العلم بالله وبما سوى الله، فمن علم أنه باق لا يصبر عنه ولا يتوكل في الأمور إلا عليه، ومن علم أن ما سواه فإن هان عليه الصبر وعلم أنه لا يصلح للاعتماد عليه. ثم ذكر ما يعين على الصبر والتوكل وهو النظر في حال الدواب.
وقال المفسرون: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسلم بمكة بالهجرة خافوا الفقر والضيعة فكان الرجل منهم يقول: كيف أقدم بلدة ليست لي فيها معيشة فنزلت وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا
عن الحسن أي لا تدخره وقال غيره: لا تطيق حمل الرزق اللَّهُ يَرْزُقُها بإيجاد غذائها وهدايتها إليه. ثم بتشبث ذلك الغذاء بالمغتذي بتوسط قوى أودعها فيها وهيأها لذلك. وَإِيَّاكُمْ بمثل ما قلنا وبزيادة الاهتداء إلى وجوه المكاسب والمعايش وترتيب الملبس والمسكن وتهيئة الأقوات وادخار الأموال وتملكها اختيارا وقهرا، ومنه يعلم أن الاشتغال بترتيب بعض الوسائط وتدبيرها لا ينافي التوكل فقد يكون الزارع الحاصد متوكلا والراكع الساجد غير متوكل. عن ابن عيينة: ليس شيء يخبأ إلا الإنسان والنملة والفأرة وللعقعق مخابئ إلا أنه