ينساها. وحكي أن البلبل يحتكر في حضنيه أي يجمع. وإذا كان أكثر الحيوان على صورة المتوكلين فالإنسان العاقل العارف بالمبدأ والمعاد، العالم بوجوه المكاسب الذي يأتيه الرزق من جهات الإرث والعمارة والهدية ونحوها، كيف يظاهر على الحطام الزائل أشد حرص؟! وَهُوَ السَّمِيعُ لدعاء طلبة الرزق الْعَلِيمُ بطوياتهم ومقادير حاجاتهم. ثم عجب أهل العجب من حال المشركين من أهل مكة وغيرهم لم يعبدوا الله مخلصين مع علمهم بأنه خالقهم ورازقهم، فكيف يصرفون عن توحيد الله؟ فإن من علمت عظمته وجبت خدمته، ولا عظمة فوق عظمة خالق الذرات وإليه أشار بخلق الأرض والسموات موجد الصفات وإليه الإشارة بتسخير الشمس والقمر ولا حقارة فوق حقارة الجماد لأنه دون النبات وهو دون الحيوان وهو دون الإنسان وهو دون سكان السموات، فكيف يتركون عبادة أشرف الموجودات ويشتغلون بعبادة أخس المخلوقات، وحين ذكر الخلق أتبعه ذكر الرزق وحكمة البسط والقبض في ذلك الباب. ومعنى يَقْدِرُ يضيق فالضمير في لَهُ إما للشخص المعين المبسوط له والمراد أن تعاقب الأمرين عليه بمشيئة الله وإما لمبهم غير معين كأن الضمير وضع موضع من يشاء. وفي قوله إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ إشارة إلى أنه عالم بمقادير الحاجات فإذا علم احتياج العبد إلى الرزق أوصله إليه من غير تأخير إن شاء.
ثم احتج على المشركين بوجه آخر وهو اعترافهم بأن إحياء الأرض الميتة بواسطة تنزيل ماء السماء هو من الله. ثم قال قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وهو كلام مستقل على سبيل الاعتراض أو هو متصل بما قبله كأنه استحمد رسوله على البراءة من التناقض والتهافت خلاف أهل الشرك المعترفين بأن النعمة من الله ثم يتركون عبادته إلى عبادة الصنم الذي لا يملك نفعا ولا ضرا. وفيه أن العالم إذا لم يعمل بعلمه انخرط في سلك من لا عقل له ولهذا عقبه بقوله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ وقال جار الله: أراد لا يعقلون ما يقولون وما فيه من الدلالة على بطلان الشرك وصحة التوحيد، أو لا يعقلون ما تريد بقولك:«الحمد لله» ولا يفطنون لم حمدت الله عند مقالتهم. واعلم أن المشركين معترفون بأن الخلق والرزق من الله، ولكن حب الدنيا وزينتها حملتهم على موافقة أهل الشرك والمداومة على الدين الباطل، فصغر الله تعالى أمر الدنيا وعظم أمر الآخرة ليعلم أن رعاية جانب الآخرة أهم من رعاية صلاح الدنيا. قال أهل العلم: الإقبال على الباطل لعب، والإعراض عن الحق لهو، والمشتغل بالدنيا كذلك. ويمكن أن يقال: المشتغل بها لا على وجه الاستغراق بل على وجه يفرغ لبعض أمور الآخرة لاعب، والمشغول بها بحيث ينسى الآخرة بالكلية لاه وحين كان الكلام في الأنعام بعد ذكر الآخرة وما يجري فيها من الحيرة والحسرة قدم اللعب هنالك