للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

«تعال جائيا وقم قائما» من الصفات القائمة مقام المصدر نحو «أقاعدا وقد سار الركب» بقي في الآية بحث، وهو أنه كيف يعقل خروج المياه الكثيرة من الحجر الصغير؟ والجواب أما على القول بالفاعل المختار فظاهر فإن له أن يحدث أيّ فعل خارق شاء من غير أن يطلب له سبب وواسطة، وأما عند طالب الأسباب والوسائط فإن العناصر الأربعة لها هيولي مشتركة عندهم. وجوّز وانقلاب صور بعضها إلى بعض، فجاز استمداد الماء الكامن في الحجر من الهواء المجاور له، ومثل هذا ما

رواه أنس أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بإناء وهو بالزوراء، فوضع يده في الإناء فجعل الماء ينبع من بين أصابعه فتوضأ القوم. قال قتادة قلت لأنس: كم كنتم؟

قال: ثلاثمائة أو زهاء ثلاثمائة. بل معجزة نبينا صلى الله عليه وسلم أقوى لأن نبوع الماء من الحجر معهود في الجملة، أما نبوعه من بين الأصابع فغير معتاد،

قال أهل الإشارة: الروح الإنساني وصفاته في عالم القالب بمثابة موسى وقومه، وإنه يستسقي ربه لإروائها من ماء الحكمة والمعرفة فيضرب بعصا لا إله إلا الله. ولها شعبتان من النفي والإثبات تتقدان نورا عند استيلاء ظلمات النفس على حجر القلب فيتفجر اثنتا عشرة عينا من ماء الحكمة بعدد حروف لا إله إلا الله، قد علم كل سبط من أسباط الإنسان وهي خمس حواس ظاهرة، وخمس باطنة مع القلب والنفس مشربهم فيستوي في حظه بحسب مشربه.

قوله سبحانه وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى الآية. زعم بعض المفسرين أن هذا السؤال منهم كان معصية، فإن اللائق بحال المكلف الصبر على ما ساقه الله تعالى إليه خصوصا إذا كان نعمة وعفوا وصفوا، ولا سيما إذا كان المسئول أدون وأحقر. ولهذا أنكره موسى عليهم قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ. وقال الآخرون: إنه غير معصية لأن قوله كُلُوا وَاشْرَبُوا عند إنزال المن والسلوى، وانفجار الماء أمر إباحة لا إيجاب. ثم إنهم كانوا أهل فلاحة فرغبوا إلى مألوفهم، ورغبة الإنسان فيما اعتاده في أصل التربية وإن كان خسيسا فوق رغبته فيما لا يعتاد وإن كان شريفا. ولعلهم سئموا من التيه فسألوا هذه الأطعمة التي لا توجد إلا في البلاد وغرضهم البلاد. وأيضا المواظبة على الطعام الواحد تميت الشهوة وتضعف الهضم، فيصح أن يكون التبديل مطلوبا للعقلاء، ولهذا أجابهم الله تعالى إلى ما سألوا، ولو كان معصية لم يجبهم إلى ذلك، اللهم إلا أن يكون من قبيل وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى: ٢٠] وإنما صح إطلاق الطعام الواحد على المن والسلوى، لأنهم أرادوا بالوحدة نفي التبدل والاختلاف، ولو كان على مائدة الرجل ألوان عدة يداوم عليها ويأكلها كل يوم لا يبدلها. قيل: لا يأكل فلان إلا طعاما واحدا.

<<  <  ج: ص:  >  >>