يهتدي إلى وجوه التصرف بأمارات عقلية أو حسية غير البصر. وأما الممسوخ على مكانه فلا يهتدي إلى شيء أصلا. ولمثل ما قلنا قدم المضيّ على الرجوع فإن سلوك طريق قد رآه مرة يكون أهون مما لم يره أصلا، فنفى أوّلا استطاعة الأصعب ثم نفى استطاعة الأهون أيضا لأجل المبالغة. وحين قطع الأعذار بسبق الإنذار وذلك في قوله أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ شرع في قطع عذر آخر للكافر وهو أن يقول: لم يكن لبثنا في الدنيا إلا يسيرا ولو عمرتنا لما وجدت منا تقصيرا فقال الله تعالى وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ كقوله وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ [الحج: ٥] افلا تعقلون أنكم كلما دخلتم في السن ضعفتم وقد عمرتم ما تمكنتم فيه من النظر والعمل، ومن لم يأت بالواجب في زمان الإمكان لم يأت به في زمن الأزمان. وعن بعضهم:
طوى العصران ما نشراه مني ... فأبلى جدّتي نشر وطيّ
أراني كل يوم في انتقاص ... ولا يبقى على النقصان شيّ
وقال آخر:
أرى الأيام تتركني وتمضي ... وأوشك أنها تبقى وأمضي
علامة ذاك شيب قد علاني ... وضعف عند إبرامي ونقضي
وما كذب الذي قد قال قبلي ... إذا ما مر يوم مر بعضي
وحيث بين أصل الوحدانية والحشر في هذه السورة مرات أقربها قوله وَأَنِ اعْبُدُونِي وقوله هذِهِ جَهَنَّمُ إلى آخرها عاد إلى أصل الرسالة بقوله وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وإنما لم يقل وما علمناه السحر ولا الكهانة مع أنهم ادّعوا أنه ساحر كاهن لأنه ما تحدّاهم إلا بالقرآن. وإنما نسبوه إلى السحر عند إظهار فعل خارق كشق القمر وحنين الجذع إليه، ونسبوه إلى الكهانة عند إخباره عن الغيوب وهو نوع خاص من الكلام من غير اعتبار الفصاحة اللفظية والمعنوية. قال جار الله معنى قوله وَما يَنْبَغِي لَهُ أنه لا يتأتى له ولا يتسهل كما جعلناه أميا لا يهتدي للخط.
وروي عن الخليل أن الشعر كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من كثير من الكلام ولكن كان لا يتأتى له. قال: وما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال:
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب وقال:
هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت كلام اتفاقي من غير قصد وتعمد، والشعر كلام موزون مقفى مع تعمد.