وتكلم الأعضاء عبارة عن ظهور إمارات الذنوب عليهم بحيث لا يبقى للإنكار مجال كقول القائل: الحيطان تبكي على صاحب الدار إذا ظهر أمارات الحزن وأسبابه. ثم إنه تعالى أسند الختم إلى نفسه وأسند التكلم والشهادة إلى الأيدي والأرجل لكيلا يقال: إن الإقرار بالإجبار غير مقبول. وأيضا إنه أسند التكلم إلى الأيدي والشهادة إلى الأرجل لأن الأعمال مستندة إلى الأيدي غالبا كقوله وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى: ٣٠] فهي كالعاملة، والشاهد على العامل ينبغي أن يكون غيره. وإنما جعلت الشهادة عليهم منهم لأن غيرهم إما صالحون وهم أعداء للمجرمين فلهم أن يقولوا شهادتهم غير مقبولة في حقنا، وإما فاسقون وشهادة الفسقة غير مقبولة شرعا.
وهاهنا نكتة وهي أن الختم لازم للكفار في الدارين، ختم الله على قلوبهم في الدنيا وكان قولهم بأفواههم كما قال يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [آل عمران: ١٦٧] ثم إذا ختم على أفواههم أيضا في الآخرة لزم أن يكون قولهم بسائر أعضائهم. هذا وقد ذكرنا مرارا أنه تعالى كلما يذكر تمسك الجبرية يذكر عقيبه تمسك القدرية وبالعكس. وكان للقدرية أن تتمسك بقوله يَكْسِبُونَ تَكْفُرُونَ حيث أسند الله الكفر والكسب إليهم فلا جرم عقبه بتمسك الجبري وهو قوله وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا ووجه التمسك أن إعماء البصائر شبه إعماء الأبصار، وسلب القوّة العقلية كسلب القوّة الجسمية. فكما أنه لو شاء لطمس على أبصارهم حتى لا يهتدوا إلى الطريق القاهر الظاهر ولو شاء لسلب قوّة جسومهم بالمسخ حتى لا يقدروا على تقدم ولا تأخر، فكذلك إذا شاء أعمى البصائر وسلب قواهم العقلية حتى لم يفهموا دليلا ولم يتفكروا في آية. والطمس محو أثر شق العين. قال جار الله فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ أصله فاستبقوا إلى الصراط فانتصب بنزع الخافض. والمعنى لو شاء لمسخ أعينهم فلو راموا أن يسبقوا إلى الصراط الذي عهدوه واعتادوا على سلوكه إلى مساكنهم لم يقدروا عليه إذ الصراط طريق الاستباق، والاستباق مضمن معنى الابتدار.
فالمراد لو شاء لأعماهم حتى لو أرادوا أن يمشوا مستبقين في الطريق المألوف أو مبتدرين إياه كما كان هجيراهم لم يستطيعوا. أو يجعل الصراط مسبوقا لا مسبوقا إليه، فالمعنى لو طلبوا أن يخلفوا الصراط الذي اعتادوه لعجزوا ولم يقدروا إلا على سلوك الطريق المعتاد كالعميان يهتدون فيما ألفوا من المقاصد والجهات دون غيرها. عن ابن عباس: أراد لمسخناهم قردة وخنازير. وقيل: حجارة. وعن قتادة: لأقعدناهم على أرجلهم أو أزمناهم على أرجلهم. والمكان والمكانة واحد أراد مسخا مجمدا بحيث لا يقدرون أن يرجعوا مكانهم. وإنما قدم الطمس على المسخ تدرّجا من الأهون إلى الأصعب، فإن الأعمى قد