وقد حكى من جملة مكالماتهم تذكرهم أنه كان قد حصل لهم في الدنيا ما يوجب لهم الوقوع في عذاب الله، ثم إنهم تخلصوا عنه وفازوا بالنعيم المقيم وهذا ابتداء الحكاية قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ أي من أهل الجنة إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ جليس أو شريك في الدنيا يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أي بيوم الدين أَإِنَّا لَمَدِينُونَ لمجزيون من دان يدين إذا جزى. وقيل:
لمسوسون مقهورون من دانه إذا ساسه ومنه
الحديث «الكيس من دان نفسه»
وعن بعضهم:
أراد بالمتحادثين الرجلين المذكورين في الكهف في قوله وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ [الآية: ٣٢] قالَ يعني ذلك القائل أو الله أو بعض الملائكة هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ إلى النار أي هل تحبون أن تطلعوا فتعلموا أين منزلتكم منها. عن ابن عباس: إن في الجنة كوى ينظر أهلها منها إلى النار فَاطَّلَعَ على أهل النار فرأى قرينه فِي سَواءِ الْجَحِيمِ وسطها قالَ لقرينه تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ «إن» مخففة واللام فارقة. والإرداء الإهلاك، وبخه على أنه كان يدعوه في الدنيا إلى إنكار البعث المتضمن للكفر المؤدّي إلى الهلاك الحقيقي.
والخطاب مع القرين إما أن يكون بحيث يسمعه حقيقة وذلك لرفع الحجاب وتقريب المسافة أو كما أراد الله بقدرته، وإما أن يخاطبه وإن لم يمكنه السماع لبعده كما يخاطب الموتى ومن في حكمهم، نظيره ما مر في قصة صالح فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ [الأعراف: ٧٩] إلى آخر الآية والله أعلم. ثم شكر الله تعالى على أن وفقه لنعمة الإسلام وأرشده إلى الحق وعصمه عن الباطل فقال وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ في النار مثلك أطلق إطلاقا لأن الإحضار يستعمل في الشر غالبا ولا سيما في اصطلاح القرآن.
وحين تمم كلامه مع الرجل الذي كان قرينا له في الدنيا وهو الآن من أهل النار عاد إلى مخاطبة جلسائه من أهل الجنة قائلا أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ وفيه قولان أحدهما: إن أهل الجنة لا يعلمون في أوّل دخولهم الجنة أنهم لا يموتون فيستفهمون عن ذلك فيما بينهم، أو يسألون الملائكة فإذا جيء بالموت على صورة كبش أملح وذبح فعند ذلك يعلمون أنهم لا يموتون والتقدير: نحن مخلدون منعمون فما من شأننا أن نموت ولا أن نعذب. وثانيهما أن هذا مما يقوله المؤمن تحدثا بنعمة الله سبحانه واغتباطا بحاله، فإن الذي يتكامل خيره وسعادته إذا عظم تعجبه بها قد يقول. أفيدوم هذا لي؟ وإن كان على يقين من دوامه. وأيضا إنه قال ذلك بمسمع من قرينه ليكون توبيخا له وليحكيه الله فيكون لنا لطفا وزجرا. احتج نفاة عذاب القبر بقوله إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى فإنه يدل على أن الإنسان لا يموت إلا موتة واحدة ولو حصلت الحياة في القبر لكان الموت حاصلا مرتين. وأجيب بأن المراد بالموتة الأولى كل ما يقع في الدنيا. وقوله إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يجوز أن يكون من تمام كلامه لقرينه تقريعا له وتوبيخا وأن يكون من قول أهل الجنة فيما بينهم أي إن هذا الأمر