للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وحيث بين الأكل ذكر أن ذلك حاصل مع الإكرام والتعظيم فقال وَهُمْ مُكْرَمُونَ إذ الأكل الخالي عن التعظيم يليق بالبهائم. وحين ذكر مأكولهم وصف مسكنهم وهيئة جلوسهم فقال فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ وقد مر في «الحجر» . ثم وصف مشروبهم. قال أهل اللغة: لا يسمى الإناء كأسا إلا إذا كان فيها خمر، وقد تسمى الخمر نفسها كأسا. عن الأخفش:

كل كأس في القرآن فهي الخمر وكذا في تفسير ابن عباس. والمعين النهر الجاري على وجه الأرض وأصله معيون لأنه الظاهر للعيون أو من عين الماء. وقد يقال: عان الماء يعين إذا ظهر جاريا قاله ثعلب.

وقيل: «فعيل» من المعن وهو المنقعة أو الماء الشديد الجري ومنه أمعن في السير أي بالغ فيه. واشتدّ وصف الخمر بما يوصف به الماء لأنها تجري في الجنة في أنهار كما يجري الماء. وبيضاء صفة للكأس: قال الحسن: خمر الجنة أشدّ بياضا من اللبن. ولَذَّةٍ إما مصدر وصف بها للمبالغة كأنها نفس اللذة، أوصي تأنيث. اللذ واللذ اللذيذ واحد كالطب والطبيب ثم بين أن خمر الجنة لا تغتال العقول. يقال: غاله يغوله غولا إذا أهلكه وأفسده، وفيه تعريض بخمر الدنيا ولهذا قدم الظرف وبنى الكلام على الاسم في قوله وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ أي يسكرون. وخص هذا الوصف بالذكر لأنه أعظم المفاسد في شرب الخمر. يقال: نزف الشارب على البناء للمفعول إذا ذهب عقله. والتركيب يدور على الفناء والنفاد ومنه نزحت الركية حتى نزفتها إذا لم تترك فيها ماء. وأنزف مثله ومعناه صار ذا نزف. وعن بعضهم أن معنى قوله وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ هو أن الشراب لا ينقطع عنهم لئلا يلزم نوع من التكرار.

والأوّلون حملوه على المبالغة. ثم وصف منكوحهم بقوله وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أي حابساتها عن غير أزواجهن كقوله عُرُباً [الواقعة: ٣٧] والعين جمع العيناء مؤنث الأعين وهو كبير العين. ثم شبههن ببيض النعام المكنون في وكناتها، وذلك لأن فيها بياضا يشوبه قليل من الصفرة، وإذا كانت مستورة في أماكنها كانت مصونة عن الغبرة والتغير فكانت في غاية الحسن، وبها تشبه العرب النساء وتسميهن بيضات الخدور. ثم عطف على قوله يُطافُ قوله فَأَقْبَلَ وهو مضارع في المعنى إلا أنه على عادة الله تعالى في الأخبار.

ولعل هذا التذاكر عقيب إطافة الكأس فلهذا جيء بالفاء بخلاف ما مر في تخاصم أهل النار.

والمراد أنهم يشربون فيتحادثون على الشراب كعادة أهل المنادمة والعشرة. قال بعضهم:

وما بقيت من اللذات إلا ... أحاديث الكرام على المدام

<<  <  ج: ص:  >  >>