[البقرة: ٢٥٦] مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ [الأعراف: ١٨٦] إلا أنه ينبغي أن يتبين الفرق بين الضلال والغواية. والظاهر أن الضلال أعم وهو أن لا يجد السالك إلى مقصده طريقا أصلا، والغواية أن لا يكون له إلى المقصد طريق مستقيم ولهذا لا يقال للمؤمن من إنه ضال أو غير مهتد ويقال له إنه غوي غير رشيد.
قال عز من قائل فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً [النساء: ٦] فكأنه سبحانه نفى الأعم أولا ثم نفى الأخص ليفيد أنه على الجادة غير منحرف عنها أصلا. ويحتمل أن يكون قوله ما ضَلَّ نفيا لقولهم هو كاهن أو مجنون لأن الكهانة أيضا من مسيس الجن. وقوله وَما غَوى نفي لقولهم هو شاعر والشعراء يتبعهم الغاوون. ويحتمل أن يكون الأول عبارة عن صلاحه في أمور المعاد، والثاني إشارة إلى رشده في أمور المعاش ومنه يعلم أن أقواله كلها على سنن الصواب إلا أنه كان يمكن أن تكون مستنبطة من العقل أو العرف أو العادة، فأسندها الله سبحانه إلى طريق أخص وأشرف وهو أن تكون مستندة إلى الوحي فقال بصيغة تفيد الاستمرار وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى أي ليس كل ما ينطق به ولا بعضه بصادر عن الرأي والتشهي إنما وحي يوحى إليه من الله، واستدل به بعض من لا يرى الاجتهاد للأنبياء عليهم السلام، وأجيب بأن الله تعالى إذا سوغ له الاجتهاد كان لك من قبيل الوحي أيضا. وأما من يخص النطق بالقرآن فلا اعتراض عليه. قال أهل اللغة: الهوى المحبة النفسانية، والتركيب يدل على النزول والسقوط ومنه الهاوية. ومبة النفس الأمارة لا أصل لها ولا تصدر إلا عن خسة ودناءة، وقوله إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ أبلغ مما لو قيل هو «وحي» وهو ظاهر. وقوله يُوحى لتحقيق الحقيقة كقوله وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الأنعام: ٣٨] فإن الفرس الشديد العدو بما يقال إنه طائر، فإذا قيل يطير بجناحيه زال جواز ذلك المجاز فكذلك هاهنا ربما يقال للكلام الصادق الفصيح هو وحي أو سحر حلال. فلما قيل يُوحى اندفع التجوز.
ثم بين طريق الوحي بقوله عَلَّمَهُ أي الموحي أو محمدا شَدِيدُ الْقُوى وهو جبرائيل عليه السلام أي قواه العلمية والعملية كلها شديدة مدح المعلم ليلزم منه فضيلة المتعلم. ولو قال «علمه جبرائيل عليه السلام» لم يفهم منه فضل المتعلم ظاهرا. وفيه رد على من زعم أنه يعلمه بشر لأن الإنسان خلق ضعيفا وما أوتي من العلم إلا قليلا. وفيه أن جبرائيل عليه السلام أمين موثوق به من حيث قوته المدركة والحافظة ولو كان مختل الذهن أو الحفظ لم يوثق بروايته، وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم كيلا يضيق صدره حين علم بواسطة الملك فكأنه قيل له: ليس لك في ذلك نقص لأنه شديد القوى على أنه قال في موضع آخر وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
[النساء: ١١٣]
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن حاله فقال «أدبني ربي فأحسن تأديبي»