البراغيث» كما ظن في الكشاف، ولكنه أحسن من ذلك ولهذا تواترت قراءته لعدم مشابهة الفعل صورة. تقول في السعة «قام رجل قعود غلمانه» وضعف «قاعدون» وضعف منه «يقعدون» لأن زيادة الحرف ليست في قوة زيادة الاسم. وجوز أن يكون في خُشَّعاً ضميرهم ويقع أبصارهم بدلا عنه. وخشوع الأبصار سكونها على هيئة لا تلتفت يمنة ويسرة كقوله لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ [إبراهيم: ٤٣] والأجداث القبور شبههم بالجراد المنتشر للكثرة والتموج والذهاب في كل مكان. وقيل: المنتشر مطاوع أنشره إذا أحياه فكأنهم جراد يتحرك من الأرض ويدب فيكون إشارة إلى كيفية خروجهم من الأجداث وضعف حالهم. ومعنى مهطعين مسرعين وقد مر في إبراهيم عليه السلام.
ثم إنه سبحانه أعاد بعض الأنباء وقدم قصة نوح على عاد وفائدة، قوله فَكَذَّبُوا عَبْدَنا بعد قوله كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ هي فائدة التخصيص بعد التعميم أي كذبت الرسل أجمعين فلذلك كذبوا نوحا. ويجوز أن يكون المراد التكرير أي تكذيبا عقيب تكذيب، كلما مضى منهم قرن تبعه قرن آخر مكذب. وقوله عَبْدَنا تشريف وتنبيه على أنه هو الذي حقق المقصود من الخلق وقتئذ ولم يكن على وجه الأرض حينئذ عابد لله سواه فكذبوه وَقالُوا هو مَجْنُونٌ وازدجروه أي استقبلوه بالضرب والشتم وغير ذلك من الزواجر عن تبليغ ما أمر به. وجوز أن يكون من جملة قولهم أي قالوا ازدجرته الجن ومسته وذهبت بلبه فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ غلبني قومي بالإيذاء والتكذيب. وقيل:
غلبتني نفسي بالدعاء عليهم حين أيست من إجابتهم لي فَانْتَصِرْ منهم فانتقم منهم لي أو لدينك روي أن الواحد من قومه كان يلقاه فيخنقه حتى يخر مغشيا عليه فيفيق وهو يقول:
اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون. وأبواب السماء وفتحها حقيقة عند من يجوز لها أبوابا وفيها مياها. وعند أهل البحث والتدقيق هو مجاز عن كثرة انصباب الماء من ذلك الصوب كما يقال في المطر الوابل «جرت ميازيب السماء وفتحت أفواه القرب» . والباء للآلة نحو:
فتحت الباب بالمفتاح. ونظيره قول القائل «يفتح الله لك بخير» . وفيه لطيفة هي جعل المقصود مقدما في الوجود والتقدير يفيض الله لك خيرا يأتي ويفتح لك الباب. ويجوز أن يراد فتحنا أبواب السماء مقرونة بِماءٍ مُنْهَمِرٍ منصب في كثرة وتتابع أربعين يوما. قال علماء البيان: قوله فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً أبلغ من أن لو قال «وفجرنا عيون الأرض» أي جعلنا الأرض كلها كأنها عيون منفجرة نظيره وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً [مريم: ٤] وقد مر فَالْتَقَى الْماءُ أي جنسه يعني مياه السماء والأرض يؤيده قراءة من قرأ فالتقى الماءان عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ أي على حال قدرها الله عز وجل كيف شاء، أو على حال جاءت