إن أراد بنا أمر وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً أي هاربين أو بسبب الهرب إن طلبنا وفيه إقرار منهم بأن الله غالب على كل شيء. الثاني عشر وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى الآية. عنوا سماعهم القرآن وإيمانهم به. وقوله فَلا يَخافُ في تقدير مبتدأ أو خبر أي فهو لا يخاف وإلا قيل بالجزم وبدون الفاء، والفائدة في هذا المساق تحقيق أن المؤمن ناج لا محالة كأنه وقع فأخبر أنه لا يخاف ودلالة على أنه هو المختص بذلك دون غيره إذ يعلم من بناء الكلام على الضمير أن غيره خائف. وقوله بَخْساً وَلا رَهَقاً على حذف المضاف أي جزاء بخس ولا رهق لأنه لم يبخس أحدا حقا ولا رهق ظلم أحد، وفيه أن المؤمن ينبغي أن يكون غير باخس ولا ظالما. ويجوز أن يراد لا يخاف البخس من الله لأنه يجزي الجزاء الأحسن الأوفر ولا ترهقه ذلة. الثالث عشر وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ أي الجائرون عن طريق الحق بالكفر والعدوان وهو قريب من العاشر إلا أن في هذا النوع تفصيل جزاء الفريقين فذكر الإيعاد صريحا وفي الوعد اقتصر على ذكر سببه وهو تحري الرشد أي طلب الصواب المستتبع للثواب. قال المبرد: أصل التحري من قولهم ذلك أحرى وأحق وأقرب. وقال أبو عبيدة: تحروا توخوا. وفي العدول عن الحقيقة إلى المجاز في جانب الوعد بشارة وإشارة إلى تحقيق الثواب لما عرفت مرارا أن المجاز أبلغ من الحقيقة. قوله وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا معطوف على أَنَّهُ اسْتَمَعَ كما مر ومعناه أوحى إليّ أن الشأن والحديث لو استقام الجن على الطريقة المثلى. وجوز جمع من المفسرين أن يعود الضمير في اسْتَقامُوا إلى الأنس لأن الترغيب في الانتفاع بالماء الغدق إنما يليق بهم لا بالجن، ولأن الآية روي أنها نزلت بعد ما حبس الله المطر عن أهل مكة سبع سنين. وزعم القاضي أن الثقلين يدخلون في الآية لأنه أثبت حكما معللا بعلة وهو الاستقامة فوجب أن يعم الحكم بعموم العلة. وأما قول من يقول إن الضمير عائد إلى الجن فله معنيان: أحدهما لو ثبت أبوهم الجان على ما كان عليه من عبادة الله ولم يستكبر عن السجود لآدم وتبعه ولده على الإسلام لأنعمنا عليهم. وذكر الماء الغدق وهو الكثير كناية عن طيب العيش وكثرة المنافع لأنه أصل البركات، فتكون الآية نظير قوله وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ [المائدة: ٦٥] وثانيهما لو استقام الجن الذين استمعوا القرآن على طريقتهم التي كانوا عليها قبل الاستماع ولم ينتقلوا عنها إلى الإسلام لو سعنا عليهم الرزق في الدنيا ليذهبوا بطيباتهم في الحياة الفانية وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا [الزخرف: ٣٣] إلى آخره. وأما الذين قالوا: الضمير عائد إلى الإنس فالوجهان جاريان فيه بعينهما. وعن أبي مسلم: إن المراد بالماء الغدق جنات تجري من تحتها الأنهار يعني في الجنة. واحتجاج الأشاعرة بقوله