وحين فرغ من شرح أحوال الآخرة بدأ بكيفية صدور القرآن الذي منه تعليم هذه العلوم والحقائق فقال إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا وفيه أنواع من المبالغة من قبل إيقاع الضمير اسما لأن «ثم» تكريره ومن جهة ذكر المصدر بعد الفعل ومن جهة لفظ التنزيل دون الإنزال لأن تنزيل القرآن منجما مفرقا أقرب إلى تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيت فؤاده، وحيث سلى قلبه أمره بالصبر على أذى الكفار إلى أوان تنزيل آية القتال ونهاه عن طاعة كل آثم منهم وخصوصا الكفور فإن الكفر أعظم الآثام قال النحويون: كلمة أو مفيدة لأحد الشيئين أو الأشياء، فأورد عليه أنه يلزم في الآية أنه لا يجوز طاعة الآثم والكفور إذا تخالفا. أما إذا توافقا فإنه يجوز طاعتهما إذ لا يبعد أن يقول السيد لعبده إذا أمرك أحد هذين الرجلين فخالفه. أما إذا توافقا فلا تخالفهما. والجواب أنه لا ريب أن قولك «لا تضرب زيدا أو عمرا» معناه في الأظهر لا تضرب زيدا ولا عمرا. ويحتمل احتمالا مرجوحا «لا تضرب أحدهما واضرب الآخر» إلا أن هذا الاحتمال مدفوع في الآية لقرينة الإثم والكفر فإن أحدهما إذا كان منهيا عنه فكلاهما معا
أولى لأن زيادة الشرّ شرّ. ولهذا قال الفراء: لا تطع واحدا منهما سواء كان آثما أو كفورا. ولو كان العطف بالواو كان نصا في النهي عن طاعتهما معا، ولا يلزم منه النهي عن طاعة كل منهما على الانفراد. وقد خص بعض المفسرين فقال: الآثم هو عتبة لأنه كان متعاطيا لأنواع الفسوق. والكفور هو الوليد لأنه كان شديد الشكيمة في الكفر.
يروى أن عتبة بن ربيعة قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ارجع عن هذا الأمر حتى أزوجك ولدي فإني من أجمل قريش ولدا. وقال الوليد: أنا أعطيك من المال حتى ترضى فإني من أكثرهم مالا. فقرأ عليهم رسول الله من أول «حم السجدة» إلى قوله فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ فانصرفا عنه. وقال أحدهما: ظننت أن الكعبة ستقع.
وقال الحسن: الآثم هو المنافق، والكفور مشركو العرب، أمره بالصبر على التكاليف مطلقا. ثم قسمها إلى نهي وأمر على هذا الترتيب لأن التخلية مقدمة على التحلية. أما النهي فقد مر، وأما الأمر فأوله ذكر الله ولا سيما في الصلاة أول النهار وآخره وهو المراد بقوله بُكْرَةً وَأَصِيلًا ويشمل صلوات الفجر والظهر والعصر وأول الليل وهو المراد بقوله وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ أي وفي بعض الليل فصل له يعني صلاة المغرب والعشاء وأوسطه وهو المعنى بقوله وَسَبِّحْهُ أي وتهجد له طويلا من الليل ثلثيه أو نصفه أو ثلثه كما مر في «المزمل» . ثم شرع في توبيخ المتمردين عن طاعته مستحقرا إياهم قائلا إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الدار الْعاجِلَةَ ونعميها الزائل وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا أي شديدا كقوله ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الأعراف: ١٨٧] ثم بين كمال قدرته قائلا نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا