أيضا فلعلهم يسورون بالجنسين إما على المعاقبة وإما على الجمع. وما أحسن بالمعصم أن يكون فيه سواران سوار من ذهب وسوار من فضة. وأيضا فالطباع مختلفة فرب إنسان يكون استحسانه لبياض الفضة، ورب إنسان يكون استحسانه لصفرة الذهب فالله تعالى يعطي كل أحد بفضله ما تكون رغبته فيه أتم. وقال بعض أهل التأويل: أساور اليد أعمالها وأكسابها التي صارت ملكات نورانية بها يتوسل إلى جوار الحضرة الصمدية كما أن الذهب والفضة في الدنيا وسائل إلى تحصيل المطالب العاجلة. ثم ختم جزاء الأبرار بقوله وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً هو إما مبالغة طاهر والمراد أنها ليست بنجسة كخمور الدنيا ولا مستقذرة طبعا لمساس الأيدي الوضرة والأقدام النجسة والدنسة، ولا تؤل إلى النجاسة ولكنها ترشح عرقا من أبدانهم له ريح كريح المسك. وإما مبالغة مطهر. قال أبو قلابة: يؤتون بالطعام والشراب ممزوجا بالكافور والزنجبيل فإذا كان ذلك سقوا هذا الشراب فتظهر بذلك بطونهم ويفيض عرق من جلودهم كريح المسك. وذكر أصحاب التأويل أن الأنوار الفائضة من العالم العلوي متفاوتة في الصفاء والقوة والتأثير فبعضها كافورية طبعها البرد واليبس ويكون صاحبها في الدنيا في مقام الخوف والبكاء والقبض، وبعضها زنجبيليا على طبع الحر واليبس ويكون صاحبها قليل الالتفات إلى ما سوى الله قليل المبالاة بالجسمانيات، ثم لا يزال الروح الإنساني ينتقل من نوع إلى نوع ومن مقام إلى مقام إلى أن ينتهي إلى حضرة نور الأنوار فيضمحل في نور تجليه سائر الأنوار، وهذا آخر سير الصديقين ومنتهى درجاتهم في الارتقاء إلى مدارج الكمال، فلهذا أضاف السقي إلى ذاته قائلا وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ ثم ختم وعدهم بقوله إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً عن ابن عباس أن هذا المعنى إنما يقال لهم بعد دخولهم الجنة، فالقول مقدر والغرض إعلامهم أن كل ما تقدم من أصناف العطاء إنما هو جزاء أعمالهم والغرض إذاقة لذة الآخرة فإن سرورهم يزيد بذلك. وقال آخرون: إنه ابتداء خبر من الله تعالى لعباده في الدنيا ليعلموا في دار التكليف أن هذه الأشياء معدة في الآخرة لمن بر وأطاع. واعلم أنه سبحانه بين في أول السورة أن الإنسان وجد بعد العدم، ثم ذكر أنه خلقه من أمشاج وهي العناصر والأخلاط والماءان ماء الرجل وماء المرأة، والأطوار المتعاقبة على النطفة أو النفس أو البدن، وعلى جميع التقادير فلذلك يدل على كونه فاعلا مختارا صانعا حكيما. ثم أخبر أنه ما خلقه لأجل العبث ماطلا باطلا ولكنه خلقه للابتلاء والامتحان وأعطاه كل ما هو محتاج إليه من العقل والحواس ثم إن مآل أمره بالجبر أو بالقدر إلى الشكر أو الكفر، أما الكافر فله السلاسل والأغلال، وأما الشاكر فله النعيم والظلال. واختصر في العقاب وأطنب في ذكر الثواب إشارة إلى أن رحمته سبقت غضبه.