للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نفسه إذ لم يكن لأحد من آل داود من الصوت الحسن ما كان لداود إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بدلالة المعجزة على صدق المدعي وهاهنا محذوف والتقدير: فأتاهم التابوت فأذعنوا لطالوت وأجابوا إلى المسير تحت رايته. فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ أصله فصل نفسه ثم كثر حذف المفعول حتى صار في حكم غير المتعدي والمعنى: انفصل عن بلده مع الجنود. والجند الأعوان والأنصار وكل صنف من الخلق جند

قال صلى الله عليه وسلم: «الأرواح جنود مجندة» «١» .

روي أن طالوت قال لقومه: لا ينبغي أن يخرج معي رجل بنى بناء لم يفرغ منه، ولا تاجر مشتغل بالتجارة، ولا متزوج بامرأة لم يبن فيها. ولا أبتغي إلا الشاب النشيط الفارغ. فاجتمع إليه ممن اختاره ثمانون ألفا، وكان الوقت قيظا وسلكوا مفازة فسألوا الله أن يجري لهم نهرا. فقال نبيهم: على قول، أو طالوت على الأظهر،

وذلك إما بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم أو بالوحي إن كان نبيا إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ بما اقترحتموه من النهر. قيل في حكمة هذا ابتلاء: إنه لما كان من عادة بني إسرائيل مخالفة الأنبياء والملوك مع ظهور الآيات الباهرة، أظهر الله علامة قبل لقاء العدو يتميز بها الصابر على الحرب من غير الصابر، لأن الرجوع قبل لقاء العدو لا يؤثر كتأثيره حال لقاء العدو. عن ابن عباس والسدي أنه نهر فلسطين، وعن قتادة والربيع أنه نهر بين الأردن وفلسطين.

ونهر بتحريك الهاء وتسكينها لغتان ومُبْتَلِيكُمْ أي ممتحنكم. ولما كان الابتلاء من الناس إنما يكون بظهور الشيء، وثبت أن الله لا يثيب ولا يعاقب على علمه إنما يظهر ذلك بظهور الأفعال من الناس وذلك لا يحصل إلا بالتكليف، لا جرم سمى التكليف ابتلاء. فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي هو كالزجر أي ليس بمتصل بي ولا بمتحد معي من قولهم «فلان مني» يريد أنه كأنه بعضه لاختلاطهما واتحادهما، أو ليس من أهل ديني وطاعتي ومن حزبي وأشياعي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ ومن لم يذقه من طعم الشيء إذا ذاقه.

ومنه طعم الشيء لمذاقه. واعلم أن الفقهاء اختلفوا في أن من حلف أن لا يشرب من هذا النهر كيف يحنث؟ فقال أبو حنيفة: لا يحنث إلا إذا كرع في النهر. حتى لو اغترف بالكوز ماء من ذلك النهر وشربه لا يحنث لأن الشرب من الشيء هو أن يكون ابتداء شربك متصلا بذلك الشيء. وقال الباقون: بل إذا اغترف الماء بالكوز من ذلك النهر وشربه يحنث لأن هذا وإن كان مجازا إلا أنه مجاز مشهور، فلما كان من المحتمل في اللفظ الأول أن يكون النهي مقصورا على الشرب من النهر حتى لو أخذه بالكوز وشربه لا


(١) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب ٢. مسلم في كتاب البر حديث ١٥٩. أبو داود في كتاب الأدب باب ١٦. أحمد في مسنده (٢/ ٢٩٥، ٥٢٧) .

<<  <  ج: ص:  >  >>