نسب إليها من السوء وكان الحاضرون حينئذ جمعا قليلا ولا يبعد في مثلهم التواطؤ على الإخفاء. وبتقدير أن يذكروا ذلك فإن غيرهم كانوا يكذبونهم في ذلك وينسبونهم إلى البهت. فهم أيضا قد سكتوا لهذه العلة. فلهذه الأسباب بقي الأمر مكتوما إلى أن نطق القرآن بذلك. ثم ختم أوصاف عيسى بقوله: وَمِنَ الصَّالِحِينَ كما ختم بذلك أوصاف يحيى. وفيه أن الدخول في زمرة الصالحين والانتظام في سلكهم هو المقصد الأسنى والأمر الأقصى. قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ لم تقل ذلك استبعادا وتشككا وإنما أرادت تعيين الجهة كما مر في قصة زكريا فأجيبت بقوله: كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وقد سبق نظيره إلا أنه عبر عن الفعل هاهنا بالخلق لأن القدرة هاهنا أتم وهو تخليق المولود بغير أب ولهذا أكده بقوله: إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وقد تقدم تفسيره في السورة التي تذكر فيها البقرة وَيُعَلِّمُهُ بالياء عطف على يُبَشِّرُكِ أو على وَجِيهاً أو على يَخْلُقُ لأن قوله: يَخْلُقُ ما يَشاءُ وهو عام يتضمن قوله: «يخلقه» ، ويحتمل أن يكون كلاما مبتدأ. وكذا من قرأ بالنون لأن المذكورات في قوة إِنَّا نُبَشِّرُكَ ونحن نخلقه. ثم الذي علمه أمور أربعة: أولها الكتاب وكان المراد به الخط. وثانيها الحكمة وهو أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به. وثالثها التوراة لأن البحث عن أسرار الكتب الإلهية لا يمكن إلا بعد الاطلاع على العلوم الخمسة. ورابعها الإنجيل وفيه العلوم التي خصه الله تعالى بها وشرفه بإنزالها عليه. وهذه هي الغاية القصوى والرتبة العليا في العلم والفهم والإحاطة بالحقائق والاطلاع على الدقائق. ثم قال: وَرَسُولًا عطفا على وَجِيهاً وما بعده. إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أي إلى كلهم لأنه جمع مضاف. وفيه رد على اليهود القائلين بأنه مبعوث إلى قوم مخصوصين منهم أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ يتعلق بمحذوف يدل عليه لفظ الرسول أي ناطقا بأني قد جئتكم. وإنما وجب هذا الإضمار للعدول عن الغيبة إلى التكلم. وأما قوله: وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ فمعطوف على قوله: بِآيَةٍ أي مع آية والتقدير: جئتكم مصاحبا لآية من ربكم ومصدقا لما بين يديّ، وجئتكم لِأُحِلَّ لَكُمْ وفي الكشاف تقديره:
ويعلمه الكتاب والحكمة ويقول أرسلت رسولا بأني قد جئتكم ومصدقا لما بين يدي. أو الرسول والمصدق فيهما معنى النطق فكأنه قيل: وناطقا بأني قد جئتكم، وناطقا بأني أصدق ما بين يديّ. وعن الزجاج: إن التقدير ويكلم الناس رسولا بأني قد جئتكم بآية من ربكم.
والمراد بالآية الجنس لا الفرد لأنه عدد أنواعا من الآيات، ثم أبدل على الآية قوله: أَنِّي أَخْلُقُ فيمن قرأ بفتح أَنِّي ويحتمل أن يكون «أن» مع ما بعده مرفوعا أي هي أني أخلق.
ومن قرأ أَنِّي أَخْلُقُ فللاستئناف أو للبيان كقوله: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ [آل