ومجاهد والسدي أنه أول بيت ظهر على وجه الماء عند خلق الأرض والسماء، وقد خلقه الله قبل الأرض بألفي عام، وكان زبدة بيضاء على الماء ثم دحيت الأرض من تحته. وعن الزهري قال: بلغني أنهم وجدوا في مقام إبراهيم ثلاثة صفوح في كل صفح منها كتاب. في الصفح الأول:«أنا الله ذو بكة وضعتها يوم وضعت الشمس والقمر وحففتها بسبعة أملاك حنفاء وباركت لأهلها في اللحم واللبن» . وفي الثاني:«أنا الله ذو بكة، خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي. من وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته» . وفي الثالث:«أنا الله ذو بكة خلقت الجن والإنس فطوبى لمن كان الخير على يديه وويل لمن كان الشر على يديه» . وقد يستدل على صحة هذا القول بما
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: ألا إن الله قد حرم مكة يوم خلق السموات والأرض.
وتحريم مكة لا يمكن إلا بعد وجودها ولأنه تعالى سماها أم القرى، وهذا يقتضي سبقها على سائر البقاع، ولأن تكليف الصلاة كان ثابتا في أديان جميع الأنبياء. وأيضا قال تعالى في سورة مريم أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ إلى قوله: خَرُّوا سُجَّداً [مريم: ٥٨] والسجدة لا بد لها من قبلة.
فلو كانت قبلتهم غير الكعبة لم تكن هي أول بيت وضع للناس هذا محال خلف. القول الثاني:
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أول مسجد وضع للناس؟ فقال:«المسجد الحرام ثم بيت المقدس فسئل كم بينهما؟ قال: أربعون سنة»«١»
وعن علي أن رجلا قال له: هو أول بيت؟ قال: لا. قد كان قبله بيوت، ولكنه أول بيت وضع للناس مباركا، فيه الهدى والرحمة والبركة.
واعلم أن الغرض الأصلي من ذكر هذه الأوّلية بيان الفضيلة وترجيحه على بيت المقدس. ولا تأثير لأولية البناء في هذا المقصود، وإن كان الأرجح ثبوت تلك الأولية أيضا كما روينا آنفا، وفي سورة البقرة أيضا من الأخبار والآثار. فمن فضائل البيت أن الآمر ببنائه الرب الجليل، والمهندس جبرائيل، وبانيه إبراهيم الخليل وتلميذه ابنه إسماعيل. ومنها أنه محل إجابة الدعوات ومهبط الخيرات والبركات، ومصعد الصلوات والطاعات، ومنها مقام إبراهيم كما يجيء، ومنها قلة ما يجتمع من حصى الجمار فيه فإنه منذ ألف سنة يرمي في كل سنة خمسمائة ألف إنسان كل واحد منهم سبعين حصاة ثم لا يرى هناك إلا ما لو اجتمع في سنة واحدة لكان غير كثير. وليس الموضع الذي يرمى إليه الجمرات مسيل ماء أو مهب رياح شديدة. وقد جاء في الآثار أن كل من كانت حجته مقبولة رفعت جمراته إلى السماء. ومنها أن الطيور تترك المرور فوق الكعبة وتنحرف عنها البتة إذا
(١) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب ١٠، ٤٠. مسلم في كتاب المساجد حديث ١، ٢. النسائي في كتاب المساجد باب ٣. ابن ماجه في كتاب المساجد باب ٧. أحمد في مسنده (٥/ ١٥٠) .