للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فالجواب أنا نقول له: إن أرادت أنا قلنا: إن الله خلق فيهم الكفر وألزمهم إياه إلزاماً لا محيص لهم عنه، فقد أعنتهم بذلك، فإنا لا نقول ذلك لأنه لم يجبرهم على ذلك، بل نقول وقع الكفر منهم باكتساب منهم وخلق الله ذلك فيهم ولم يعصمهم من الشيطان ولا خل فيهم اللطف الذي خلقه في المؤمنين. وإن أردت أنا قلنا: إن الله أراد عنتهم وهلاكهم في الآخرة بما خلق فيهم من الكفر بكسبهم له فكذا نقول: لأن التوفيق والثواب إفضال منه وإنعام وله ترك الإفضال والإنعام.

ثم قال المخالف: وأما استدلاله بأنه أمر الخلق بأن يسالوه ألا (١) يحملهم ما لا طاقة لهم به، فلا حجة لهم بذلك لأنه يجوز أن يأمر أن يسأله (٢) ما يعلم انه لا يفعل خلافه، وهو قوله {رَبِّ (٣) احْكُمْ بِالْحَقّ} (٤).

والجواب: أنا قد بينا أن المراد بهذه الآية أنه أمره أن يسأله تعجيل النصر له عليهم بالحق الذي وعده إياه في الدنيا، ولم يسأله وهو شاك في أنه يحكم بغير الحق وهو الباطل (٥)، (٦).


(١) في - ح- (لئلا).
(٢) في - ح- (أن يأمرهم أن يسألوه).
(٣) في - ح- وهو كقوله (وقل رب).
(٤) الأنبياء آية (١١٢).
(٥) تقدم الكلام على هذه الآية ص ٤٤٠.
(٦) كلام المصنف هنا يتعلق بمسألة التكليف بما لا يطاق هل يجوز وقوعه عقلاً أم لا، على قولين:
القول الأول: إنه لا يجوز وقوعه عقلاً فلا يجوز أن يكلف الله العباد إلا ما هو في طاقتهم، وبه قال المعتزلة وتعليلهم لهذا القول هو ما ذكره المصنف عنهم من أن الله خلق العباد لينفعهم وأنه يجب عليه مراعاة الأصلح لهم، وهو قول ظاهر البطلان إذ لو لم يجز وقوعه لم يتمدح الله بتركه في قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لاعْنَتَكُم} ولم يأمرنا أن ندعوه بقوله: {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ}.
القول الثاني: أنه يجوز وقوع التكليف بما لا يطاق، للأدلة التي ذكرها المصنف هنا، ولما تقدم بيانه من مخالفة أهل السنة لقول المعتزلة في مسالة الحكمة والتعليل واللوازم منا، والقائلون بهذا هم أهل السنة ويوافقهم في هذا الأشاعرة، إلا أن الأشاعرة يخالفون أهل السنة في نقاط تتعلق بتكليف ما لا يطاق فإن ما لا يطاق، أنواع:
النوع الأول: هو ما لا يطاق لاستحالته كالجمع بين الضدين، وكأمر الأعمى بنقط المصحف والأخرس بالتكلم ونحوه، فهذا لهم فيه قولان. بعضهم كالرازي قال بجوازه ووقوعه في الشرع، وضربوا لذلك مثلاً: أمر الله عزوجل أبا لهب بالإيمان وقد أخبر أنه لا يؤمن فهو أمره أن يؤمن بأنه لا يؤمن.
وهذا قول باطل، والمثال المضروب لذلك غير صحيح، لأن الخبر إنما كان موجهاً لمن كان يصدق بهذا وهو النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، ويكون أبو لهب بهذا الخبر وهو أنه {سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} فيمن حقت عليه كلمة العذاب وفرغ منه فلا يطلب منه إيمان، ومن المستحيل أن يدعوه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان وتصديق كلام الله وقد جاء فيه ما جاء، لأن هذا من إضاعة الجهد في غير محله وفيه ما يدل على الشك في الخبر ومخالفة لقوله عزوجل: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} وحاشا الرسول صلى الله عليه وسلم أن يظن به هذا، فعليه فإن هذا المثال مثال باطل، ويصح لو ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دعاء إلى التصديق والإيمان بعد نزول هذه الآية، وهو لا يصح لما تقدم بيانه.
النوع الثاني: ما لا يطاق لا لاستحالته وإنما لتركه والاشتغال بضده. بيان ذلك أن الأشاعرة يقولون إن الاستطاعة مع الفعل ولا تكون قبله، فإذا كلف العاصي بالطاعة حال معصيته فيكون هذا تكليفاً بما لا يطاق لاشتغاله بضد الطاعة وهي المعصية، ولا يمكن أن يجمع بين الضدين فصار هذا تكليفاً بما لا يطاق لاشتغاله بضد الطاعة والمعصية، ولا تكون أن يجمع بين الضدين فصار هذا تكليفاً بما لا يطاق، وهذا النوع أجازوا وقوعه في الشريعة وهو واقع بالنسبة لكل من اشتغل عن الطاعة بمعصية، وجمهورهم على هذا القول.
وقد تقدم الكلام في الاستطاعة وترجيح أن الاستطاعة تكون مع الفعل وقبله ص ١٦٥ لا كما يزعم الأشاعرة ومن وافقهم أن الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل، فعليه يكون هذا النوع لا يعد على الصحيح من تكليف ما لا يطاق، كما أن عده من التكليف بما لا يطاق واعتباره واقعاً في الشريعة مخالف للآيات الدالة على رفع الحرج وعدم التكليف بما لا يطاق.
النوع الثالث: ما لا يطاق لعدم القدرة عليه عادة كحمل جبل والطيران في السماء، فهذا أجازوا وقوعه عقلاً مع قولهم بأنه لم يقع في الشريعة، وعليه حملوا قوله عزوجل: {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِه} وهذا القول في الواقع راجع إلى قولهم بنفي الحكمة في الخلق والأمر.
انظر: هذه الأقوال في: التمهيد للباقلاني ص ٣٨٣ - ٣٨٤، الاقتصاد للغزالي ص ١١٢ - ١١٣، الإرشاد للجويني ص ٢٠٤، المواقف للإيجي ص ٣٣٠ - ٣٣١، المعتمد في أصول الدين للقاضي أبي يعلى ص ١٤٦ - ١٤٧، الفتاوى لشيخ الإسلام ٨/ ٣٠٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>