للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

دليل ثان يقال: من أنكر أن يكون الله متكلماً، فإنه ينكر تصور الرسول منه لأن معنى الرسول هو المبلغ لكلام المُرسِل إلى المرسَل إليه، فإذا قال الرسول: أرسلني إليكم من لا يتكلم كان (١) كما لو قال أرسلني إليكم الجبل أو الماء.

دليل ثالث: أن الخرس آفة ولا يجوز أن يوصف الله بالخرس، وإذا لم يوصف بالخرس تعين وصفه بالكلام لأنه ضد الخرس، كما أن الله سبحانه يوصف بالوجود لأن الوجود ضد العدم ولما لم يوصف بالعدم تعين وصفه الوجود.

فإذا تقرر هذا فإن كلام الله هو القرآن، وهو هذه السور التي هي آيات لها أول وآخر، وهو القرآن المنزل بلسان العرب تكلم الله به بحروف لا كحروفنا وصوت يسمع لا كأصواتنا، وهو صفة لله قديم يقدمه غير مخلوق (٢).


(١) (كان) ليست في - ح-.
(٢) قول السلف - رحمهم الله - في الكلام والقرآن هو أن الله متكلم جل وعلا متى شاء كيف شاء، وأن كلامه جل وعلا بصوت يسمع وحرف لا كأصواتنا ولا كلامنا، وأن القرآن الكريم الذي هو موجود بين دفتي المصحف وهو السور والآيات من كلامه جل وعلا وهو من علمه سبحانه وتعالى غير مخلوق.
وهذا قول السلف قاطبة، كما ذكر ذلك الأئمة، نقل عنهم ذلك الأئمة ودونوه في كتبهم كالإمام البخاري واللالكائي والآجري في الشريعة وشيخ الإسلام وغيرهم.
فإذا تبين هذا فهنا عدة ملاحظات على كلام الشيخ العمراني:
أولاً: قوله: إن كلام الله هو القرآن: هذا فيه إيهام أن الله لم يتكلم إلا بالقرآن فقط، وهذا قول باطل فإن كلام الله لا نهاية له كما ضرب لنا في المثل الواضح {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} لقمان آية (٢٧)، وقوله عزوجل: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} الكهف آية (١٠٩).
وقوله: "بحروف لا كحروفنا لم أجد من ذكر ذلك من السلف وإنما قولهم: "تكلم الله بحرف وصوت" والله عز وجل قطعاً تكلم بهذا القرآن الذي هو حروف والله أعلم.
وقوله: "وهو صفة لله قديم بقدمه" الضمير هنا يعود على القرآن، والقرآن من كلام الله كما تقدم والكلام صفة لله عزوجل، ويتكلم الله به عزوجل متى شاء وكيف شاء، وهو يتكلم متى شاء والأدلة على أن الله متصف بصفة الكلام كثيرة، وهي ظاهرة بحمد الله عزوجل فكلامه جل وعلا بالقرآن دليل على أنه يتكلم متى شاء، ثم كلامه جل وعلا مع موسى عليه السلام وقوله جل وعلا لجهنم: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ}، وكلامه مع أهل الجنة: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} وكلامه مع عيسى عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} الآية، وكذلك أمره بخلق الأشياء: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، فهذا صريح في أن الله يتكلم بـ {كنُ} وقت غرادته خلق الأشياء ولم يتكلم بذلك قبل إرادة خلقه وإيجاده.
وورد أيضاً من السنة ما يدل على ذلك وهو كثير، منها حديث عدي بن حاتم - رضي الله عنه - قال صلى اله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان" أخرجه خ. الرقاق ٨/ ٩٥، م. الزكاة ٢/ ٧٠٣. وحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: "إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة فيقولون لبيك وسعديك والخير في يديك فيقول: هل رضيتم … " الحديث، أخرجه خ. كتاب التوحيد ٩/ ١٢١، ومما ورد عن السلف في ذلك ما ذكره الإمام أحمد في كتابه الرد على الجهمية قال: "نقول إن الله لم يزل متكلماً إذا شاء". انظره ضمن عقائد السلف ص ٩٠.
ونقل شيخ الإسلام ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل ٢/ ٧٧ عن أبي إسماعيل الأنصاري قوله عن ابن خزيمة في رده على الكلابية في نفيهم المشيئة في الكلام قوله "فطار لتلك الفتنة ذلك الإمام أبوبكر فلم يزل يصيح بتشويهها ويصنف في رده كأنه منذر جيش، حتى دوّن في الدفاتر وتمكن في السرائر، ولقن في الكتاتيب، ونقش في المحاريب أن اله متكلم إن شاء الله تكلم وإن شاء سكت، فجزى الله ذلك الإمام وألئك النفر الغر عن نصرة دينه وتوقير نبيه خيراً".
ونقل أيضاً شيخ الإسلام بعد هذا الكلام كلام أبي نصر السجزي في الإبانة وهو "فأما الله تعالى فإنه متكلم فيما لم يزل ولا يزال متكلماً بما شاء من الكلام يسمع من يشاء من خلقه ما شاء من كلامه إذا شاء ذلك ويكلم من شاء تكليمه بما يعرفه ولا يجهله".
ونسب شيخ الإسلام هذا القول إلى السلف وقال: "فالسلف وأهل السنة يقولون إنه يتكلم بمشيئته وقدرته وكلامه غير مخلوق". الفتاوى ٦/ ٢٥١ فهذا كله ظاهر بحمد الله في إثبات أن الكلام قديم النوع حادث الإفراد كما عبر عن ذلك شارح الطحاوية. انظر: ص ١٨٠.
والذين أثر عنهم وصف كلام الله بأنه قديم هم الكلابية والأشاعرة، وذلك لإنكارهم الصفات الفعلية، وزعمهم أن كلام الله معنى قائم بالنفس، وقد تأثر بهم بعض من يأخذ بقول السلف في إثبات الحرف والصوت، إلا أنهم يقولون إن كلام الله قديم كما يذكر ذلك القاضي أبو يعلى الحنبلي، وشيخه عبد الله بن حامد، وابن عقيل، وابن الزاغوني، وعليه أيضاً السفاريني في لوامع الأنوار البهية، وهذا المذهب في الواقع لا يتمشى مع القائل إن الله يتكلم بحرف وصوت، إنما هو مجرد تقليد، ولقول بعضهم إن الله لا تحل به الحوادث فلهذا ينكرون الكلام بالمشيئة.
أما قول المصنف هنا "إن القرآن قديم" فهذا باطل ولا دليل عليه، ولم يقل بذلك أيضاً أحد من السلف، وهو في الواقع راجع إلى قول من أنكر أن الله يتكلم حيث شاء وهم الأشاعرة ومن تأثر بهم، وقد بين شيخ الإسلام - رحمه الله - أن هذا القول ليس من قول السلف فقال: "إن السلف قالوا القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، وقالوا لم يزل متكلماً إذا شاء، فبينوا أن كلام الله قديم أي جنسه قديم لم يزل، ولم يقل أحد منهم إن نفس الكلام المعين قديم، ولا قال أحد منهم القرآن قديم، بل قالوا إنه كلام الله منزل غير مخلوق وإذا كان منزلاً غير مخلوق، ولم يكن مع ذلك أزلياً قديماً بقدم الله وإن كان الله لم يزل متكلماً إذا شاء فجنس كلامه قديم" انتهى. الفتاوى ١٢/ ٥٤.
انظر: كلام السلف في الكلام: خلق أفعال العباد للبخاري ص ٧ - ١٦، السنة للالكائي ١/ ١٥١ - ١٨٥، والشريعة للآجري ص ٧٥ - ٨٣، شرح العقيدة الأصفهانية ص ٣١ - ٣٦، شرح العقيدة الطحاوية ص ١٨٠. وانظر قول الكلابية والأشعرية ومن وافقهم: مقالات الإسلامييين ١/ ٤٤٩ - ٢٥٠، اللمع ص ٢٢ - ٢٣، الفتاوى ١٢/ ٣٦٦ - ٣٦٩، درء تعارض العقل والنقل ٢/ ٢٥٥، لوامع الأنوار البهية ١/ ١٣٣ - ١٣٤، مختصر المعتمد في أصول الدين للقاضي أبي يعلى ص ٨٦، إبطال التأويلات للقاضي أبي يعلى ورقة ١٣٥/أ- ب.

<<  <  ج: ص:  >  >>